من دمشق إلى بيروت.. مقايضة إقليمية تبدأ من الحدود وتنتهي بالسلاح؟

صهيب جوهر

تشهد المنطقة لحظة سياسية دقيقة، تتسم بزخم ديبلوماسي غير مسبوق، يسبق زيارة الموفد الأميركي توماس باراك إلى بيروت. هذه اللحظة لا تنفصل عن الانفراج الجزئي في المواجهة بين إسرائيل وإيران، بعد التفاهمات الأولية لوقف النار، والتي بدورها أطلقت دينامية جديدة تحاول إعادة فتح الملفات الإقليمية المجمّدة منذ سنوات. ويأتي ذلك في ظل اقتناع متزايد لدى عواصم القرار بأنّ إبقاء الأزمات على حالها بات يهدّد بانفجار شامل، تتجاوز تداعياته الحدود الجغرافية والنزاعات التقليدية، ليصل إلى قلب التوازنات الدولية نفسها.

هذا التحوّل في المقاربة الدولية لا يُبنى فقط على قراءة أمنية للأوضاع، بل يستند إلى استشعار حقيقي لخطر تحوّل النزاعات الإقليمية إلى وقائع يصعب احتواؤها. فالعالم بعد ثلاث سنوات متواصلة من المواجهات، من أوكرانيا إلى غزة، مروراً بسوريا واليمن ولبنان، يقترب من مشهد فوضوي تتداخل فيه الصراعات العسكرية بالمصالح الاقتصادية والتنافسات الجيوسياسية الكبرى. والأخطر من ذلك أن معادلة الردع النووي التي كانت تكبح الجماح العسكري أصبحت على المحك، وسط تلميحات باستخدام أسلحة مدمّرة أو التلويح بها، ما يُعيد شبح الحروب الكونية ولكن بصيَغ جديدة.

اختارت واشنطن أن تربط المسارين اللبناني والسوري، ضمن مقاربة أمنية – سياسية جديدة، تأخذ بالاعتبار الترابط بين الساحات الثلاث: لبنان، سوريا، وغزة.

في هذا الإطار، عادت بعض القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى توظيف أدواتها العسكرية في ساحات كانت قد اكتفت فيها سابقاً بالعقوبات الاقتصادية والحصار المالي. الحرب الإسرائيلية – الإيرانية شكّلت محطة مفصلية، حيث تم التخلي عن مبدأ «الحرب بالوكالة» لصالح المواجهة المباشرة، ولو ضمن حدود مضبوطة. ومع ذلك، فإنّ ما تحقق من نتائج ميدانية لم يكن بحجم التوقعات الأميركية، لا سيما أن

إيران، رغم الضربات التي استهدفت منشآتها النووية والصاروخية، نجحت في امتصاص الصدمة، بل وردّت بخطوات نوعية، أبرزها وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومنع المفتشين من الاطلاع على مخزون اليورانيوم عالي التخصيب ومكان تخزينه، في مؤشر على تمسك طهران بخياراتها السيادية وعدم رضوخها لأي ابتزاز استراتيجي.

في موازاة ذلك، بدأ الحراك الإقليمي يأخذ شكلاً أكثر وضوحاً. فالساحة السورية شهدت خلال الأسابيع الأخيرة تحوّلاً ملحوظاً في التعامل الدولي، تمثّل في قرارات بتخفيف جزء من العقوبات المفروضة، في إشارة إلى بداية مسار تفاوضي جديد يُراد له أن يُنتج تسوية قابلة للحياة. اللافت في هذا السياق هو دخول الملف اللبناني مجدداً في قلب هذا المسار، ليس بوصفه ساحة مستقلة، بل كجزء من ترتيبات أكبر تشمل أيضاً أمن إسرائيل، دور سوريا، ومستقبل النفوذ الإيراني.

تكليف توماس باراك بملف بيروت ودمشق معاً يعكس هذا التغيير في الرؤية الأميركية. فبعد سنوات من المراوحة الديبلوماسية، وغياب أي تقدم في مقاربة التعقيد اللبناني، اختارت واشنطن أن تربط المسارين اللبناني والسوري، ضمن مقاربة أمنية – سياسية جديدة، تأخذ بالاعتبار الترابط بين الساحات الثلاث: لبنان، سوريا، وغزة. هذا الربط يظهر بوضوح في الأولوية المعطاة لملف الحدود اللبنانية – السورية، لا من باب ضبط السيادة فقط، بل كجزء من آلية إنهاء النزاع بين حزب الله وإسرائيل. فترسيم هذه الحدود، خصوصاً في مناطق مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر، يفتح الباب أمام إسقاط الذريعة التي طالما تمسّك بها حزب الله لتبرير بقاء سلاحه.

الهدف إذاً هو التدرج في إقفال الملفات العالقة، بدءاً من الاحتلال الإسرائيلي للتلال الحدودية، وصولاً إلى نقاش أوسع حول مستقبل السلاح، خصوصاً في المناطق الممتدة شمال نهر الليطاني. غير أن هذا الطرح لا ينفصل عن تفاهم أوسع يُفترض أن يشمل أيضاً مستقبل التوازن اللبناني الداخلي، ودور الجيش، وتوزيع السلطة السياسية، وهو ما يجعل الملف اللبناني أكثر تعقيداً من مجرد مسألة سلاح أو حدود.

الكلّ بات يدرك أن ما بعد حرب إيران وإسرائيل ليس كما قبلها، وأنّ حزب الله لم يعد ملفاً داخلياً لبنانياً يمكن عزله، بل جزء من معادلة إقليمية لا يمكن حسمها إلا ضمن صفقة شاملة

في المقابل، تبدو طهران غير مستعدة لتقديم أي تنازل مجاني. الموقف الإيراني الراهن يقوم على قاعدة واضحة: ما لم تحققه الولايات المتحدة بالحرب، لن تحصل عليه بالتفاوض. وبالتالي، فإن أي طاولة تفاوض لن تُعقد قبل أن تُقر واشنطن ومعها العواصم الأوروبية بأن إيران لا تزال لاعباً مركزياً لا يمكن تجاوزه. هذا الموقف الصلب يفسر إصرار طهران على تعليق التزاماتها مع الوكالة الذرية، وإبقاء مصير مخزونها من اليورانيوم مجهولاً، كأداة تفاوض إضافية.

في هذا السياق، جاءت المبادرة الفرنسية الأخيرة لإعادة فتح خط الاتصال مع موسكو، بعد قطيعة دامت عامين بسبب الحرب في أوكرانيا، كمحاولة لإقناع طهران بالعودة إلى طاولة المفاوضات من بوابة ثلاثية: تفكيك برنامجها النووي، كبح برنامجها الصاروخي، وتقليص نفوذها الإقليمي. لكن هذه الشروط، رغم تكرارها، لم تعد قادرة على استقطاب إيران إلى الطاولة من موقع ضعف، بل العكس هو الصحيح. ما لم تُمنح إيران ضمانات حقيقية واعترافاً بدورها الإقليمي، فلن تقبل العودة إلى مسار سياسي يتجاهل موقعها.

على هذه الخلفيات، يُفهم حجم الحراك الديبلوماسي المتزايد من عواصم مثل باريس والرياض والدوحة، إضافة إلى موسكو وواشنطن. فالكلّ بات يدرك أن ما بعد حرب إيران وإسرائيل ليس كما قبلها، وأنّ حزب الله لم يعد ملفاً داخلياً لبنانياً يمكن عزله، بل جزء من معادلة إقليمية لا يمكن حسمها إلا ضمن صفقة شاملة، تتجاوز الحسابات اللبنانية الضيقة، نحو نظام أمني – سياسي جديد في المشرق، يُعاد فيه توزيع الأدوار والنفوذ، بين اللاعبين التقليديين والناشئين.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى