قررت تركيا خوض معركة “درع الربيع” في إدلب، انتقامًا لمقتل عدد من جنودها، ومنعًا لسقوط المنطقة بالكامل في يد النظام السوري وحلفائه، لأن ذلك يقضي بالكامل على دورها في تسوية الصراع بسوريا.
أطلقت تركيا، فجر الأول من مارس/آذار 2020، عملية درع الربيع في منطقة إدلب، شمال غربي سوريا. جاءت العملية بعد أسابيع من الحشد التركي العسكري الكبير في محيط المحافظة السورية، أو ما تبقى منها تحت سيطرة المعارضة المسلحة، بعد أسابيع من تقدم قوات النظام السوري والميليشيات المرتبطة بها فيما يُعرف منذ سبتمبر/أيلول 2018 بمنطقة عدم التصعيد. كما جاءت العملية بعد يومين فقط من استهداف قوات النظام السوري لقافلة عسكرية محمولة تركية في جوار إدلب، موقعة 36 قتيلًا وعشرات الجرحى في صفوف القوة التركية.
وكان سبق إطلاق العملية، ومباشرة بعد استهداف دورية الجيش التركي، قصف واسع النطاق لمواقع وآليات ومعسكرات ومخازن قوات النظام السوري والميليشيات الشيعية المرتبطة بها، قامت به القوات التركية، مستخدمة المدفعية الثقيلة، والصواريخ، والطائرات المسيرة. أوقع القصف التركي خسائر فادحة بقوات النظام السوري وبعناصر حزب الله والميليشيات الشيعية التي يقودها ضباط من الحرس الثوري الإيراني، موهنًا هذه القوات وقدرتها على القتال والصمود.
هذه هي العملية العسكرية الرابعة للجيش التركي في سوريا منذ درع الفرات (2016)، وغصن الزيتون، أو عفرين (2018)، وينابيع السلام، أو شرق الفرات (2019). فما هي دلالات العملية التركية العسكرية الجديدة؟ ولماذا اضطرت إليها تركيا أصلًا؟ وأية أهداف يعمل الأتراك على تحقيقها من هذه العملية؟ وما احتمالات استمرار القتال حتى تحقيق أهداف عملية درع الربيع، أو التوصل إلى اتفاق سياسي بين تركيا وروسيا يضع قواعد جديدة لمنطقة عدم التصعيد؟
الطريق إلى الحرب
تعود فكرة مناطق عدم التصعيد، التي استهدفت تقليص مساحة، وخفض درجة النزاع في سوريا، إلى مباحثات أستانة، 2017. ولكن الاتفاق حول حدود وشروط منطقة عدم التصعيد في إدلب تم التوصل إليه في مباحثات تركية-روسية في سوتشي، سبتمبر/أيلول 2018. لم ينشر النص الرسمي لاتفاق سوتشي من أي من أطرافه، ولكن بعضًا من التفاهمات التي تضمَّنها الاتفاق عُرفت بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ضمت منطقة عدم التصعيد التي تشارك تركيا في الإشراف عليها معظم محافظة إدلب، وأجزاء من ريف حماة الشمالي وريف حلب الجنوبي-الغربي، على أن تقام نقاط مراقبة عسكرية تركية في محيط كامل المنطقة للتأكد من وقف إطلاق النار وتنفيذ التفاهمات الأخرى بشأن المنطقة. تتهم روسيا تركيا بالإخفاق في الوفاء بتعهداتها في إدلب، سيما من جهة تأمين طريقي إم 4 وإم 5 الضروريين لإنعاش اقتصاد الشمال السوري الغربي برمته. كما أن تركيا تتهم النظام والميليشيات المرتبطة به، إضافة إلى القوات الروسية الجوية، بالإخفاق في الوفاء بتعهداتها في وقف إطلاق النار، واستمرت في استهداف مواقع المعارضة المسلحة والمدنيين على السواء.
ولأن المنطقة تحتضن ليس سكانها وحسب، بل ومئات الآلاف من المهجرين من مناطق سورية أخرى، أصبح أمن وسلامة السكان مسألة حيوية لتركيا، التي تخشى تدفق موجة أخرى من اللاجئين السوريين عبر الحدود، إضافة إلى الثلاثة ملايين ونصف المليون من اللاجئين السوريين، الذين تستضيفهم منذ سنوات. كما باتت أنقرة تخشى من أن خسارة إدلب قد تؤدي إلى مطالبة سورية-روسية بإخلاء المناطق التي تخضع لإدارة تركية مباشرة في الباب وجرابلس وعفرين وشرق الفرات، مما سيؤدي إلى تهديد مباشر للأمن القومي التركي، طالما ظلت سوريا ساحة نزاع وظلت الجماعات المسلحة المرتبطة بحزب العمال الكردستاني نشطة في أكثر من منطقة سورية.
مستخدمةً ذريعة عدم تنفيذ تركيا تعهداتها في إدلب، بدأت قوات النظام سلسلة من الهجمات على منطقة عدم التصعيد التركية منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي (2019)، متجاوزة نقاط المراقبة التركية العسكرية في محيط المنطقة. وبالرغم من محاولات تركيا التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع روسيا، كانت قوات النظام، وبمساندة من الطائرات الروسية، تعود لاستئناف هجماتها، بعد ساعات قليلة من الإعلان عن وقف إطلاق النار في بعض الأحيان.
ولم يعد ثمة شك -في ضوء التصريحات الروسية المتكررة بتحميل تركيا مسؤولية تصاعد التوتر في منطقة عدم التصعيد- أن روسيا تؤيد، أو على الأقل لا تعارض، مساعي النظام فرض السيطرة الكاملة على إدلب، وطرد القوات التركية من المنطقة، بغضِّ النظر عن حجم الخسائر بين المدنيين أو حجم المأساة الناجمة عن موجة لجوء جديدة لسكان إدلب.
خلال الشهور الثلاثة الماضية، نجحت قوات النظام في طرد المعارضة المسلحة، ومعها مئات الآلاف من السكان المدنيين، من خان شيخون، ومعرة النعمان، وسراقب، ومعظم تمركزات المعارضة في ريفي حلب وحماة، مهددة منطقة جبل الزاوية الاستراتيجية ومدينة إدلب نفسها. لفترة قصيرة، نجحت قوات النظام في فتح الطرق السريع الممتد بين حلب ودمشق، وبدأت سلسلة من الهجمات لفتح الطريق السريع المتفرع منه، بين حلب واللاذقية، محاصرة العديد من نقاط المراقبة التركية. ولم تُخْفِ قوات النظام نواياها حول إجبار القوات التركية على الخروج من إدلب، وذلك بتوجيه نيرانها بصورة متفرقة إلى هذه القوات، موقعة عددًا من القتلى بين صفوفها.
لحماية جنودها في نقاط المراقبة، وردع قوات النظام عن استهداف المدنيين ومنع تقدمها إلى المزيد من المدن المكتظة بالسكان، بدأت تركيا حشدًا منظمًا ومخططًا لقواتها في إدلب، بما في ذلك قطع المدفعية الثقيلة، والدبابات، والقوات المحمولة، والقوات الخاصة. وفي الخامس من فبراير/شباط، ألقى الرئيس التركي، أردوغان، خطابًا، تضمن إنذارًا للقوات السورية بالتراجع إلى ما خلف حدود اتفاق سوتشي لعدم التصعيد، ممهلًا النظام حتى نهاية فبراير/شباط لتنفيذ هذا الانسحاب.
كان واضحًا أن المهلة الطويلة نسبيًّا، التي رافقها استمرار الحشد العسكري التركي في إدلب، قُصد بها دفع روسيا، صاحبة الأمر والنهي في مجريات الصراع على سوريا، إلى التفاوض للتوصل إلى تسوية جديدة. بيد أن روسيا لم تستجب للمبادرات التركية. وبالرغم من أن خبراء عسكريين ودبلوماسيين من الطرفين التقوا في ثلاث جولات طوال فبراير/شباط، لم تنجح المفاوضات في التوصل حتى لاتفاق لوقف إطلاق النار.
كما لم يستجب النظام السوري لإنذار الرئيس التركي؛ وفي المقابل، ألقى الرئيس السوري خطابًا حمل نَفَسًا انتصاريًّا، وجَّه فيه التحية لقوات جيشه وما أسماه “القوات الرديفة”، أو الميليشيات الشيعية، التي يبدو أنها تحملت العبء الأكبر في اندفاعة النظام إلى منطقة عدم التصعيد. وبينما استمر الجيش التركي في حشد قواته في محافظة إدلب، وقبل يومين فقط من نهاية فبراير/شباط، قصفت قوات النظام قافلة محمولة للجيش التركي قرب مدينة إدلب، موقعة خسائر كبيرة، وغير مسبوقة، بالقوات التركية (36 قتيلًا وعشرات الجرحى). أثارت الخسائر في صفوف القوات التركية غضبًا واسع النطاق في مختلف أنحاء تركيا، وربما كانت الدافع الرئيس خلف حسم القرار التركي بالذهاب إلى الحرب.
استرداد المبادرة
خلال ساعات من الهجوم السوري بعد ظهر 27 فبراير/شباط، جاء الرد التركي هائلًا ومدمرًا. وحتى صباح الأول من مارس/آذار، عندما أُطلقت عملية درع الربيع رسميًّا، أوقع القصف التركي المنهجي خسائر فادحة بقوات النظام السوري ومعداته، وبالميليشيات الشيعية المرتبطة به، سواء تلك التي تنتمي لحزب الله اللبناني، أو تلك التي تشرف عليها وتوجهها قوات الحرس الثوري الإيراني. كما ساعد القصف التركي قوات المعارضة السورية المسلحة على استرداد مدينة سراقب من قبضة قوات النظام، وبالتالي استعادة السيطرة على مفترق طريقي حلب-دمشق وحلب-اللاذقية السريع. وقد أشارت شدة القصف ونطاقه إلى أن العملية التركية العسكرية أصبحت وشيكة بالفعل.
ما ساعد الجيش التركي على التمهيد لبدء عمليته كان النجاح، غير المسبوق في جبهات المعركة النشطة، في نشر واستخدام الطائرات المسيرة كأداة مباشرة في الحرب. ولم يكن خافيًا، طوال الأيام الخمسة، من 27 فبراير/شباط إلى 2 مارس/آذار، أن غياب الطيران الروسي عن ساحة المعركة، أفسح المجال ربما للجيش التركي للثأر لخسائره التي أوقعها القصف السوري على القافلة التركية المحمولة.
أعلن وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، الذي كان أيضًا قائد أركان الجيش التركي قبل تعيينه وزيرًا للدفاع، ومن يشرف على عملية درع الربيع، أن هدف العملية هو تأمين نقاط المراقبة التركية، وتأمين الحدود، والحفاظ على أمن وسلامة المدنيين في إدلب، وإجبار النظام على احترام اتفاق سوتشي وإعادة قواته إلى ما خلف خطوط منطقة عدم التصعيد.
خلال اليوم الأول للعملية، أظهرت القوات التركية كفاءة بالغة، كاشفة عن قوة نيران فائقة. أسقطت طائرات تركية طائرتي سوخوي للنظام السوري بدون أن تخترق مجال سوريا الجوي، ثم أسقطت بعد ذلك طائرة حربية ثالثة؛ مما أدى إلى تراجع النظام عن نشر سلاحه الجوي في ساحة المعركة، وتعرض منشآت مطار النيرب العسكري السوري للتدمير، وإخراج المطار كلية عن العمل. كما ساعدت السيطرة بالنيران التركية قوات المعارضة المسلحة على التقدم في أكثر من جبهة قتال نشطة، بما في ذلك جبل الزاوية، وجنوب إدلب، وريف حلب. وكشفت مراقبة الاتصالات العسكرية السورية، التي تقوم بها مجموعات المعارضة، عن ذعر كبير في أوساط قوات النظام والميليشيات المرتبطة به، وعن اتهامات صريحة للروس بالتخلي عن هذا النظام.
أصدر المركز الإيراني للمستشارين العسكريين في سوريا بيانًا وجَّه فيه اللوم لتركيا لاستهداف مواقع الميليشيات الشيعية التي يقودها المستشارون الإيرانيون. كما أصدرت موسكو بيانًا غامضًا مساء يوم العملية التركية الأول يقول بأن روسيا لن تستطيع ضمان أمن الطائرات التركية بعد أن أعلنت دمشق عن إغلاق المجال الجوي في منطقة عدم التصعيد. ما فُهم من البيان الإيراني، أن إيران وحلفاءها مصممون على الاستمرار في المشاركة في جهود النظام السوري العسكرية. وما فُهم من بيان موسكو أن الطيران الروسي سيعود إلى التحليق في منطقة عدم التصعيد وتوفير الدعم لقوات النظام بعد غياب الأيام الخمسة الأولى؛ مما سيجعل من الصعب على تركيا استهداف طائرات النظام السوري أو تحليق الطيران التركي في سماء منطقة عدم التصعيد.
في اليوم الثاني للعملية، حاول النظام والميليشيات الشيعية، تحت غطاء جوي روسي كثيف، استعادة مدينة سراقب. ولكن المحاولة تعثرت، بعد أن أوقع مسلحو المعارضة خسائر فادحة في قوات النظام، مدعومين بالطائرات المسيرة التركية. ولكن الملاحظ أن الجانب الروسي عمل على رفع مستوى التصعيد في المواجهة غير المباشرة مع تركيا بالإعلان عن نيته نشر الشرطة العسكرية الروسية في مدينة سراقب. في الوقت نفسه، حققت المعارضة المسلحة تأمين منطقة جبل الزاوية بالكامل، وأخذت بالتقدم إلى بلدة كفرنبل، بداية الطريق إلى معرة النعمان.
في يوم العملية التركية الثاني، أيضًا، ألقى الرئيس التركي خطابًا حمل نبرة تصالحية تجاه روسيا وإيران، ونبرة تهديد حاسمة تجاه النظام وقواته، منذرًا بأن على النظام الانسحاب إلى خطوط اتفاق سوتشي أو مواجهة الموت والدمار. ولكن لغة أردوغان استبطنت أيضًا مراهنته على لقاء القمة المخطط بينه وبين الرئيس الروسي في موسكو، الخميس 5 مارس/آذار.
تعديل الاصطفافات
بالرغم من الاتفاق على لقاء قمة 5 مارس/آذار بين أردوغان وبوتين، وإعلان روسيا بعد ذلك عن لقاء ثلاثي سيجمع رؤساء روسيا وتركيا وإيران، سيُحدَّد موعده لاحقًا، لم يكن خافيًا أن العلاقات التركية-الروسية وصلت مستويات متدنية أعقبت مرحلة من انتهاج سياسة التقارب المطرد مع روسيا. برز اعتقاد في أوساط الطبقة التركية الحاكمة، كما في أوساط العسكريين الأتراك، بأن روسيا لا تبالي بمصالح تركيا الحيوية؛ وأن الموقف في سوريا، إضافة إلى التدخل الروسي في ليبيا إلى جانب حفتر، يكشفان عن أن روسيا تعتبر الخصم الرئيس لصعود تركيا وتوكيد دورها الإقليمي.
وقد أثار التوتر في العلاقات التركية-الروسية ردود فعل إيجابية في الأوساط الغربية، سيما في الولايات المتحدة. أظهر الأميركيون تعاطفًا دافئًا مع الموقف التركي إلى الحد الذي وصف فيه المبعوث الأميركي للأزمة السورية قتلى الجيش التركي في إدلب بالشهداء. كما أجرى أردوغان وترامب عدة اتصالات هاتفية طوال فبراير/شباط لمناقشة مسألة إدلب ومطالب تركيا بالدعم الغربي. وما عدا إعلان الولايات المتحدة أنها ستقدم دعما عسكريا لتركيا في عملياتها العسكرية بإدلب لم تتوافر أدلة على أن تركيا ستتلقى دعمًا عسكريًّا كافيًا يغطي حاجاتها من الولايات المتحدة أو حلفائها الآخرين في الناتو.
لم تطلب أنقرة تفعيل البند الخامس من ميثاق الناتو، لأنها تدرك أن الميثاق لا يلزم دول الحلف بدعم أي من أعضائه ما لم تكن سيادة هذا العضو على أرضه مهددة. ولكن أنقرة كانت تأمل أن تقوم دول الحلف، بما في ذلك الولايات المتحدة، بنشر عدد من بطاريات باتريوت المضادة للطائرات على الحدود التركية-السورية، لتأمين الفضاء التركي من أية محاولات سورية أو روسية لتهديد الأرض التركية. لم تحصل تركيا على وعود قاطعة بنشر بطاريات الباتريوت؛ ويبدو أن مسألة نظام إس 400 الروسي، الذي نشرته تركيا قبل شهور في مواجهة معارضة أميركية صلبة، لم يزل حجر عثرة في وجه نشر منظومة الباتريوت أو الموافقة على بيعها لتركيا.
ما حصلت عليه تركيا من الأميركيين، على الأرجح، كان تعهدًا أميركيًّا بتزويد الجيش التركي بمزيد من المعلومات الضرورية حول ساحة المواجهة في إدلب، إضافة إلى الاستجابة لمتطلبات تركية عسكرية أخرى قد تكون على شكل ذخائر.
إيران هي الطرف الآخر للصراع على سوريا. وطبقًا لبعض المصادر، أرسلت أنقرة في بدايات فبراير/شباط لحزب الله تحذره من الاستمرار في المشاركة في معركة إدلب، وتطلب منه سحب قواته والميليشيات الشيعية الأخرى من ساحة المواجهة. ولأن لا الحزب ولا الميليشيات الأخرى استجابت للتحذير التركي، أصبحت مجموعات هؤلاء أهدافًا للقصف التركي، مثلها مثل قوات النظام السوري، مما أوقع بها خسائر ملموسة خلال الأيام قبل وبعد انطلاق عملية درع الربيع.
حاولت إيران امتصاص الغضب التركي واحتواء العملية التركية باقتراح من الرئيس روحاني بعقد اجتماع ثلاثي، إيراني-تركي-سوري، لمعالجة الوضع في إدلب. وكان الملاحَظ في الاقتراح الإيراني استثناء روسيا، كاشفًا عن حجم الضغوط التي يتعرض لها الإيرانيون في سوريا من الروس، ورغبتهم في إعادة توكيد نفوذهم السوري بالتوافق مع تركيا. لم يجد الاقتراح الإيراني استجابة من أنقرة؛ وربما كان أحد الأسباب خلف إسراع روسيا إلى توفير الدعم الجوي العسكري لقوات النظام ابتداء من اليوم الثاني للعملية التركية. مهما كان الأمر، فالواضح أن موقف إيران هو الأصعب بين كل أطراف التدافع؛ ليس فقط لأن إيران تدرك أن روسيا تريد إضعاف موقفها في سوريا، ولكن أيضًا لأن علاقاتها الوثيقة بنظام الأسد ورغبتها في الحفاظ على نفوذها السوري، تواجه الآن سياسة دفاعية نشطة من قبل أنقرة، التي تحاول طهران الحفاظ على علاقاتها الودية معها.
خلف ذلك التباين في الموقف الدولي، أعلنت تركيا منذ نهاية فبراير/شباط توقفها عن منع اللاجئين السوريين من التوجه نحو أوروبا. أدى الإعلان التركي إلى تدفق ما يزيد عن مئة ألف من اللاجئين السوريين، وبعض من غير السوريين، إلى الحدود مع اليونان وبلغاريا. ويُعتقد بأن عدة آلاف منهم نجح بالفعل في اجتياز الحدود اليونانية والبلغارية، بالرغم من العنف الذي واجه به حرس الحدود اليونانيون جموع اللاجئين.
تقول تركيا إنها اضطرت لهذا الإجراء نظرًا لتقاعس الأوروبيين عن المشاركة في تحمل عبء اللاجئين، الذي لم تعد تركيا، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، قادرة على تحمله منفردة. ولكن الواضح أن تركيا تقصد بخطوتها هذه، إضافة إلى حثِّ أوروبا على المشاركة في تحمل عبء اللاجئين، دفع شركاء الناتو الغربيين إلى اتخاذ موقف أكثر إيجابية، سياسيًّا وعسكريًّا، من توفير الدعم للموقف التركي والضغط على روسيا.
التسوية والتصعيد
ما تشير إليه أدلة متضافرة، منذ وجَّه أردوغان إنذاره لدمشق، في 5 فبراير/شباط، بالتراجع إلى ما خلف خطوط سوتشي ونقاط المراقبة التركية، أن أنقرة تتبع سياسة الاستعداد للحرب وعواقبها، والأمل بالتوصل إلى حل سياسي للأزمة، في الوقت نفسه. ويبدو أن القيادة التركية، منذ انطلقت عملية درع الربيع، تعمل على إيقاع خسائر فادحة بالنظام السوري وحلفائه، وتحقيق تقدم ملموس على الأرض ضمن مناطق خفض التصعيد التي سبق أن سيطرت عليها قوات النظام، وتفعيل الدور الأميركي ودور حلف الناتو، استعدادًا لقمة مرتقبة في موسكو بين أردوغان وبوتين في 5 مارس/آذار، وقد حصلت على بعض المكاسب، بإعلان واشنطن تقديم دعم عسكري لتركيا في إدلب، وإعلان المستشارة الألمانية، ميركل، مساندتها إقامة منطقة آمنة في إدلب يطالب بها الرئيس التركي، أردوغان.
يأمل الأتراك أن تحقق قمة موسكو، إذا انعقدت في موعدها، أو في موعد لاحق، وسواء كانت ثنائية بين بوتين وأردوغان أو ثلاثية بانضمام روحاني، معظم أهدافهم، سواء بإجبار النظام على التراجع إلى خطوط سوتشي، أو ما يقاربها، أو بالتوافق على قواعد جديدة لوضع منطقة عدم التصعيد. بالنسبة لتركيا، لا يبدو أن ثمة استعدادًا للتراجع عن منطقة عدم التصعيد، أولًا: لأن خسارة المنطقة يعني تهديد المناطق الأخرى في الشمال السوري التي تقع تحت إدارة تركية مباشرة؛ وثانيًا: لأن إضعاف الوجود التركي في سوريا يعني إضعاف الدور التركي في المسار السياسي لحل الأزمة السورية؛ وثالثًا: لأن تقويض الدور التركي في سوريا سينعكس حتمًا على موقع ودور تركيا الإقليميين.
للتوصل إلى اتفاق ما في موسكو، لا يُستبعد أن يقدم الأتراك بعضًا من التنازلات حول السيطرة على كامل منطقة عدم التصعيد، وبعضًا من التعهدات بإخراج المجموعات التي تعتبرها تركيا إرهابية، مثل هيئة تحرير الشام، من ساحة الصراع، سواء بدعوة الهيئة إلى حل نفسها، أو حلها بالقوة العسكرية، وبتأمين الحركة على طريقي إم 4 وإم 5 السريعين. وكمؤشر على أهمية السيطرة على هذه المحاور في المفاوضات القادمة، حرص النظام وحليفاه، الإيراني والروسي، على إعادة السيطرة على مدينة سراقب مجددًا كما أفادت بذلك تقارير إخبارية، وإن كانت المعارضة السورية تنفيها، وتؤكد أن المعارك لا تزال جارية. ما يعزز فرص التوصل إلى اتفاق في موسكو أن ثمة تقديرًا في أوساط القيادة الروسية بضرورة ألا تخسر موسكو علاقاتها الجيدة مع أنقرة، ودفع الأخيرة بالكامل إلى أحضان الغرب من جديد، لمجرد تحقيق مكاسب تكتيكية في سوريا التي أصبحت بالفعل منطقة نفوذ روسي لا يُنازَع إلا بصورة جزئية.
بيد أن ثمة احتمالًا بفشل قمة موسكو في التوصل لاتفاق، سواء لعدم استعداد روسيا للاعتراف بما حققته القوة العسكرية التركية حتى الآن، أو لأن روسيا جعلت من سيطرتها المطلقة في سوريا هدفًا استراتيجيًّا مقدمًا على العلاقات الإيجابية المطردة مع تركيا. في هذه الحالة، فمن المستبعد أن تقبل تركيا بالتراجع العسكري المجاني في إدلب، حتى إنْ أصبحت ساحة المعركة أكثر تعقيدًا وازدادت مخاطر المواجهة العسكرية التركية-الروسية، التي يحاول كلا الطرفين تجنبها طوال الشهرين الماضيين.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات