عن السلام السوري مع إسرائيل

فاطمة ياسين

عندما شنّت سورية ومصر عام 1973 حرباً على إسرائيل، كانت الأهداف السورية المعلنة حينها استعادة هضبة الجولان، ولكن النتيجة التي آلت إليها الحرب رسّخت احتلالها الإسرائيلي، فضلاً عن تدمير شبه كامل للقوات البرّية السورية. وبمثابة جائزة ترضية لحافظ الأسد، تراجعت إسرائيل قليلاً عن شريط في القنيطرة ومنطقة الرفيد، متيحةً المجال للنظام لأن يقدّم نفسه منتصراً في تلك الحرب، ولكن الحقيقة كانت أن إسرائيل نجحت في إقامة منطقة عازلة محرّمة على القوات المسلحة السورية تحريماً كاملاً، وهي منطقة تقع بالكامل خارج منطقة الجولان، ونجحت أيضاً، وفق اتفاقية أمنية، في إبعاد أسلحة الدفاع الجوي عن المنطقة العازلة 25 كيلومتراً، هي بالمنطق العسكري، في تلك الأيام، مسافة مريحة للعدو. ولكن النجاح الإسرائيلي الأكبر كان بالانطفاء الكامل لأي رغبة لدى السلطة السورية في تحريك تلك الجبهة، فصمتت المدافع، وأحيلت حالة الحرب على تقاعد طويل، وابتعدت القوات المرابطة على الحدود إلى أماكن أخرى في الداخل، وخصوصاً حول دمشق، وتفرّغ نظام الأسد للدفاع عن نفسه داخليّاً، محوّلاً معايير الجيش الوطني إلى عقيدةٍ تدين بالولاء الشخصي له. ظهر إلى العلن بهدوء البند الثامن من تلك الاتفاقية، أنها “ليست اتفاقية سلام، بل هي خطوة نحو سلام عادل ودائم استناداً إلى قرار مجلس الأمن ذي الرقم 338 المؤرّخ في 22 تشرين الأول [أكتوبر] 1973”. وقعت سورية على الاتفاقية، بما يعني اعترافاً صريحاً منها بالقرار المذكور فيها، لكن نظام الأسد راوغ لاحقاً في استكمال الخطة.
وجدت إسرائيل التي تحاول أن تستفيد من كل متغيّر فرصةً ذهبية في الانعطافة الحادّة التي جاءت في “8 ديسمبر” (2024)، واعتبرت أن معاهدتها الأمنية مُلغاة، بما أن النظام الذي وقعها قد سقط وفرّ رئيسه، فحاولت فرض واقع عسكري وجغرافي مختلف، واحتلت مناطق جديدة، وتقدّمت في الداخل السوري، متجاوزة مناطق العزل التي تفرضها الاتفاقية، وذهبت بعيداً بالتدخّل في شؤون سورية الداخلية، ومساعدة أطرافٍ أحجمت عن الالتحاق بالحكومة المنبثقة من سقوط النظام، وحاولت أن تفرض شروطاً تتجاوز بكثير الاتفاقية الأمنية الموقعة عام 1974، رافضة أن تتنازل عن الأراضي التي تقدّمت فيها بعد سقوط الأسد حتى توقع اتفاقية سلام، وربما تطبيع. وقد رأت إسرائيل أن النظام الجديد من الضعف والحاجة بحيث سيسارع إلى توقيع أي شيء، الأمر الذي لم يحدُث، فقد استفاد النظام الجديد من الترحيب الدولي الكبير الذي حظي به بعد وصوله إلى الحكم، ووظف ذلك الدعم دبلوماسيّاً لبناء موقف سوري واضح يصرّ على الانسحاب الإسرائيلي، ولا يمانع عندها بتوقيع اتفاقية أمنية جديدة، وفي الوقت نفسه، رفض فكرة توقيع معاهدة سلام شامل في الوضع الراهن.
قد تكون الفرصة اليوم سانحة لترسيخ حالة من الالتزام الحقيقي على طول الجبهة السورية الإسرائيلية، عوضاً عن حالة الهدوء الحذر التي سادت منذ 1974 تاريخ توقيع الاتفاقية حتى اندلاع الثورة السورية ضد بشّار، حيث ارتفعت حرارة المنطقة، بعد سماح النظام لمجاميع إيرانية بالتجوّل في الجنوب، الأمر الذي استفادت منه إسرائيل أيضاً، فبدأت قصفاً تكرّره في الوقت الذي تريده، واستمرّت بذلك إلى ما بعد سقوط الأسد. ولا يبدو موقف سورية اليوم مرتبكاً، فمسؤولوها يتحدّثون عن نظرتهم إلى خطوات السلام من دون مواربة، وقد وعت الولايات المتحدة هذا الموقف، وهي تمتنع عن الضغط على قادة سورية الجدد لقبول أي اتفاق، وتدرك أن رغبة سورية في عدم الاعتداء حقيقية، وقد ثبت ذلك بشكل عملي واضح. وأمام هذا، تجد إسرائيل نفسها مكشوفة، وهي تبحث عن مبرّرات للإمعان في حالة التعدّي على الأراضي والأجواء السورية، وقد أدانتها جميع الدول، وحثها مجلس الأمن على التراجع، مؤكداً أن تلك الأراضي سورية، وستبقى كذلك. أما تصريحاتها المستفزة، فلن تفتح لها مخارج أخرى غير القبول باتفاقية أمنية تشابه اتفاقها السابق، وعندها يمكن بالفعل التقدّم في خطّة سلام حقيقي شاملة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى