
لا تكاد تهدأ السياسية الأميركية في متابعة الملفات العالمية واحدة تلو الأخرى، وعين سياستها الخارجية لا يتبدل عن تثبيت مكانتها العالمية المنفردة في القمة العالمية، أو على أقل تقدير البحث عن استدامة المسافة بينها وبين خصومها الدوليين المفترضين. فهي مرة تهادن وتسابق قطباً اقتصادياً وتقنياً كالصين، وفي أخرى تجري مفاوضات ماراثونية مع قطب عائد للساحة الدولية عسكرياً وجيوبوليتيكياً كروسيا سواء في ملف أوكرانيا في قلب أوروبا أو سوريا قبلها واليوم في قلب الشرق الأوسط، وفي مرات أخرى تناور اقتصادياً ودبلوماسياً بملفات عديدة أوروبية وأفريقية.
والملاحظ أنها في جميع ملفاتها في العقدين الماضيين بعد غزوة العراق عام 2003، تحاول تجنب الدخول في معترك عسكري واضح المعالم وتتجنبه قدر الإمكان. فقد انسحبت من العراق نهاية الـ 2011، وتراجعت عن قيادة التحالف الدولي ضد ليبيا في ذات الوقت، مع دعم لاحق جزئي لبعض القوات هناك. بالمقابل قادت التحالف الدولي ضد “داعش” في سوريا والعراق، مترافق مع إيلاء الروس شبه الكامل للانفراد بالملف السوري بنسبة 90% كما عبر عنها ترامب لبوتين في لقاء هيليسينكي 2019 والاكتفاء بتموضعها العسكري في قاعدة التنف الحدودية وبعض المواقع في شمال شرقي سوريا.
اليوم بعد خروج روسيا وإيران من المعادلة السورية، تعود أميركا للشرق الأوسط من جديد وبثقل دولي ديبلوماسي واضح المعالم. فهي، وبرعاية سياسة ترامب الداعية للحلول السلمية في المنطقة:
أشرفت بشكل مباشر على اتفاق الهدنة في غزة وإيقاف الحرب فيها وفرض معادلة سلام جديدة في غزة بعد حرب دامت سنتين.
العودة المعلنة للملف السوري سواء من خلال البدء برفع العقوبات منتصف أيار عن سوريا بدعم وتمهيد مباشر من السعودية وتجميد عقوبات قيصر لستة أشهر مع تقديم الدعم الكامل للسلطة السورية. كما وتتابع سياستها الخارجية التعامل مع الملف السوري بزخم واضح منذ تموز الماضي في الجنوب السوري في السويداء وانعكاساته على الاستقرار في المنطقة.
تحركات مبعوثها الدولي توماس باراك ومساعديه وقيامه بحركة مكوكية بين عواصم دول المنطقة بشكل كثيف بين أنقرة وعمان والقدس ودمشق. الأمر الذي يعكس الاهتمام الأمريكي في المنطقة من جديد واستمالتها لسوريا بحيث تكون قاطرة الاستقرار والاستثمار في الشرق الأوسط برعاية أميركية. فلأول مرة في تاريخ سوريا الحديث ترشح سوريا لأن تكون في دائرة الملعب الأميركي مباشرة خاصة بعد دخولها في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
متابعة ممارسة سياسة الشد والجذب مع المتحرك الإسرائيلي في المنطقة، وتدخلها المباشر في جميع الملفات التي يصر على افتعالها سواء في لبنان أو سوريا، والعمل على إيجاد تفاهمات تركية إسرائيلية في استقرار المعادلة الشرق الأوسط ومنع عودة إيران لها.
أميركا تعمل وتريد تركيز وتثبيت نفوذها في الشرق الأوسط مشروطة بالاستقرار والاستثمار الاقتصادي، وليس فقط، بل استفرادها في هذا الموقع العالمي العام على نقاط تقاطع خطوط الطاقة والغاز والتجارة البرية، وسوريا هي نقطة ارتكازها. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، فأمام أميركا وسوريا ملفات عدة تطلب الكثير من الشروط المسبقة، الأمر الذي دعا ترامب للتعبير أن موقفه من سوريا هو موقف اختبار في قدرتها على التعامل مع الملف الأمني بالداخل السوري. وذلك سواء في ضبط السلاح المنفلت، أو التعامل مع الخلايا المتطرفة الإرهابية والمجندين الأجانب، وعدم السماح لعودة حزب الله وحماس للعمل من داخل سوريا، وإنهاء ملف الجنوب السوري كاملاً، والتمسك بوحدة سوريا ومنع أية مشاريع لتقسيمها. بالمقابل تقوم أميركا بضمان ولجم التعنت الإسرائيلي ومحاولاته العبث العسكري والأمني على الحدود السورية، وعدم التزام إسرائيل بالاتفاقات الدولية السابقة ومحاولة فرض شروط أمنية وعسكرية جديدة على خارطة واتفاقية 1974، فيما تسعى أميركا لفرض اتفاق أمني سوري إسرائيلي قد يكون مقدمة لاتفاق سلام دائم. بالمقابل فكل من تركيا والخليج العربي أكثر تمسكاً بالاستقرار في سوريا، وأكثر دعماً للجهود الأميركية في ذلك، وبوابتهم لهذا الموقع كانت الأردن. وهنا تبرز الأدوار المفصلية التي تقوم بها الإدارة الأميركية في إعادة تموضعها الدولي في الشرق الأوسط من البوابة السورية، فهي:
تعمل على كسب جميع أطراف الصراع في بوتقة واحدة تحت عنوان واضح: استبعاد الحرب وفرض شروط السلام، فهي تغض الطرف عن أي اتفاق سوري روسي خاص بقاعدتي حميميم وطرطوس وإمكانية عودة الروس للجنوب السوري مرة أخرى، وترشح وتدعم الأردن لتنفيذ خارطة الطريق الخاصة بالجنوب السوري، مع استمرارها بضبط هدنة غزة ولجم إسرائيل في تحركاتها العسكرية.
تعمل باتساع واضح على إقامة اتفاق شراكة طويل الأمد مع المملكة العربية السعودية، وتعزيز موقعها الدولي وفق رؤية السعودية لعام 2030 وعنوانها الأبرز الانفتاح والاقتصاد والاستثمار ومحاربة التطرف والإرهاب.
العمل على ضبط المعادلات العسكرية في الجنوب السوري أو شمال شرق الفرات، ومحاولة استمالة جميع الأطراف، خاصة “قسد”، لمعاهدات التهدئة والوصول لتفاهمات آنية تفضي للاستقرار التدريجي ومنع أي تصعيد عسكري.
تثبيت التفاهمات البينية الثنائية والعامة مع كل من أنقرة وموسكو والقدس وعمان، وذلك لتجنب أية صدامات عسكرية محتملة، خاصة بين سوريا وإسرائيل، ما قد يرجح عودة الروس للمنطقة الجنوبية كقوات فصل بينهما، تسهم في حل معادلة الجنوب السوري في السويداء المستعصية لليوم.
لكن ماذا ستستفيد أميركا من كل هذا؟
لقد حددت الخارجية الأميركية في العام 2014 ما بدا أنه خطتها الاستراتيجية لمواجهة التمدد الجيوبولتيكي متعدد الأطراف المتمثل بالصين وروسيا وإيران خاصة في الشرق الأوسط، وبدأت العمل من وقتها على وضع خططها الاستراتيجية لهكذا تحديات. وتابعتها لاحقاً بما عرف بـ”خطة سلام من أجل سوريا” عبر مركز راند الأميركي عام 2015، واليوم تحصد نتائجها واحدة تلو الأخرى. فإيران خرجت من المعادلة كلياً، وروسيا تبحث عن أي اتفاق يفضي لحل موقعة أوكرانيا واستنزافها فيها، والصين تجد أن بوابة الشرق الأوسط توصد أمامها من خلال التموضع الأميركي المباشر فيها. وبالضرورة ستكون أميركا قد نجحت بإدارة خيوط اللعبة الجيوبولتيكية في استعادة موقعها المتقدم عالمياً من خلال سوريا في الشرق الأوسط، وإمساكها بخطوط الطاقة والغاز والتجارة البرية العالمية وملفات إعادة الإعمار السورية الضخمة، ويبدو أن الصفقة ضخمة يسيل لها لعاب ترامب الاستثماري. فهل يمكن للسوريين اليوم سلطة انتقالية وشعب أن يدركوا أهمية موقعهم هذا وما ترمي له أميركا؟ وبالضرورة هل يمتلكون القدرة على العمل على معاملات الاستقرار المحلي وضرورة حل الأزمات الداخلية والصراعات المتتالية التي نجمت عن سوء إدارة الملفات الأمنية في الداخل السوري؟ وهذا ما على الجميع إعادة التفكير به بجدية ومسؤولية سواء في رأس هرم السلطة الانتقالية أو أطرافها المتنازعة معها، فسوريا في مرحلة اختبار فعلية كما أوضحها ترامب فإما أن تنجح أو ستكون عواقب الفشل قاسية وجسيمة مرة أخرى..
المصدر: تلفزيون سوريا






