
بسقوط نظام الأسد البائد وتحرير كافة المعتقلين من أماكن احتجازهم في سجونه العديدة، العلنية والسرية، تأكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الرمز الوطني والقائد السياسي رجاء الناصر قد تم تصفيتُه بعد اختطافه، وتغييبُه، من وسط العاصمة دمشق في21 تشرين ثاني/ نوفمبر 2013، هو وآخرون كثر، منهم، مثلاً، الدكتور عبد العزيز الخير رفيقه في ما سمي، أو عرف، بمعارضة الداخل ممثلة ب (هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي).
ولأسباب عائلية بحتة لم يُعلن حتى الآن خبرُ وفاته، أو إعلان استشهاده، وموته، ولم يُقَم له تأبينٌ أو عزاءٌ يليق بالراحل الكبير، رغم فقدان الأمل كلياً بمعرفة مصيره، واحتمالية وجوده حياً في مكان ما، بعد انقضاء كلِّ تلك المدة، كما فعل ذوو العديد من الشخصيات البارزة، لعل آخرهم أسرة المحامي والناشط الحقوقي البارز خليل معتوق، والسبب في ذلك رفضُ ابنِه البكر طلال تصديق الأمر حتى الآن، وهو ما عبر عنه على صفحته على الفيس بوك في 8 شباط/ فبراير الماضي معتبراً أن غياب والدِه رجاء الناصر، حتى الآن يدخل تحت بند الغياب القسري، ولعل ذلك يكون مفهوماً إنسانياً وفي توقيته، وقد جاء رداً على الكاتب الصحفي والناشط السياسي حسام ميرو الذي أعلن يوم 7 شباط/ فبراير أن الراحل رجاء الناصر هو أحد ثلاثة التقوا ب(قيصر) في العاصمة الأردنية/ عمان فور وصوله إليها بعد رحلة معقدة، محفوفة بالمخاطر، حاملاً معه آلاف الصور من مسالخ الأسد، ويعزي حسام ميرو سبب اعتقال وتغييب رجاء الناصر ومن ثم تصفيته لارتباطه بهذه القضية الوطنية الكبيرة والخطيرة.!
اليوم، مازلت أعتقد أنه من الإيجابي أكثر لو تعاطت أسرة شهيدِنا بطريقة مختلفة مع الأمر، وسلمت بالواقع الذي لا يريده أحد منا، وقبل رحيل رفيقة عمر ودرب رمزنا، الوطني والقومي، السيدة عفاف مقصود التي لبت نداء ربها قبل عدة أشهر يوم 21 أيار/ مايو الماضي، ولعل ذلك، أيضاً، كان قد أطفأ من حرقتها، وخفف من مصابها الجلل، وانتظارها الطويل ومعاناتها الدائمة، ليس معه فقط، بل ومع ابنها البكر البطل الشجاع الشهيد الدكتور طارق رجاء الناصر الذي من الواجب أن تروى حكايته كاملة لتكون الحقيقة، وكلُّ تضحيات السوريين، ملك للتاريخ والأجيال القادمة.
بكل الأحوال كانت قناعتي منذ سنوات بعيدة أن الرجل أصبح في ذمة الله، ولا يُعرَف كيف قتل بالضبط وأين هي جثته؟ وقد كتبت في ذكرى تغييبه في 2020 مقالاً عنونته (نحو تحرك وطني لتدويل قضية اختفاء المناضلين رجاء الناصر والدكتور عبد العزيز الخير)، والآن وبعد انقضاء هذه المدة أعتقد من الواجب الإنساني والوطني والأخلاقي والسياسي، لنا جميعاً، نحن أخوته وأصدقاؤه ورفاق دربه، أن نفعل ما يمليه علينا ضميرُنا تجاه قامة كبيرة بحجم رجاء الناصر، ولكي تبقى ذاكرتنا حية تحفظ تضحيات من قدموا أرواحهم رخيصة لأجل سورية حرة كريمة عزيزة.
كنت في عام 2020 قد تحدثت مع عدد من الأخوة أذكر منهم: الأخ أحمد مظهر سعدو، والدكتور مخلص صيادي عن رغبتي في إعداد كتاب، عن المغيب بالأمس والراحل اليوم، يتضمن شهادات حول نشاطه، ونضاله الدؤوب، السياسي والحقوقي والثقافي والإعلامي، أسلط الضوء فيه على مراحل مهمة من تاريخ سورية الحديث والمعاصر، ومحطات بارزة ومفصلية من العمل الوطني المعارض الذي مثل ولاشك إرهاصات حقيقية أدت إلى انفجار الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، إلا أنني وبعد أن بدأت بكتابة فصل يتعلق بصلتي وعلاقتي به التي بدأت مبكراً وأنا طفل صغير، ووضعت المخطط العام للكتاب وبدأت أبحث حتى عن مساهمين في تحمل نفقات وتكاليف الطباعة والنشر توقفت لأسباب خارجة عن إرادتي تتعلق بجائحة كورونا العالمية، وظروفي الشخصية الصحية والاجتماعية، ومن ثم فقداني لشقيقي، الراحل محمد خليفة، أستاذي وصديقي وعوني الدائم، وآخرين من أسرتي بشكل متلاحق كما قضت إرادة ومشيئة الله عز وجل.
اليوم أجد لزاماً علينا أن ننهي ملف المناضل والسياسي والكاتب والحقوقي رجاء الناصر بما يليق باسمه ومكانته ودوره، ومن هنا أوجه نداءً وطنياً إلى تشكيل لجنة وطنية تكون مهمتها، معنية بتكريم الرموز الوطنية الذين قضوا في سجون الأسد والمنافي على امتداد حقبة آل الأسد، بل وأكثر من ذلك حفظ أسمائهم في سجلات التاريخ وتسمية الشوارع والمدارس والساحات العامة بأسماء هؤلاء، وإعادة الاعتبار لبعضهم ممن طالهم التشويه أو الظلم أو لفَّهمُ النسيان، وذلك يدخل في إطار العدالة الانتقالية وتوطيد السلم الأهلي الذي ننشده جميعاً، وليس بعيداً عنها.
وقبل ذلك كله على أصدقاء هؤلاء، وتحديداً رجاء الناصر، سبب هذه المادة في ذكرى تغييبه، ورفاق دربه السياسي والنضالي العمل على حفظ ما ترك بين أيديهم مما يفيد غدنا المنشود، وجمع إسهاماته الفكرية والثقافية وتسليط الضوء عليها، ولعل البداية في مهرجان تأبين جماهيري يتبناه ويدعو له شركاؤه في العمل الوطني والسياسي الطويل الذي امتد لما يقرب من ستة عقود.
قضى الرجل نحبه على الطريق الصعب والشاق الذي ارتضاه لنفسه، وآن الأوان لنا أن نزفه شهيداً ونكرمه ونرفعه للمنزلة التي يستحقها وتليق به وبنا.






