
ريما بالي كاتبة سورية متميزة ومثابرة، كنت قد قرأت لها رواياتها السابقة: غدي الأزرق و ناي في التخت الغربي و خاتم سليّمى و ميلاجرو، وكتبت عنهم كلهم.
لم نأكل التفاح هي رواية ريما بالي الجديدة الصادرة عن منشورات مسيلكاني لعام ٢٠٢٥م والتي تتابع الغوص في الواقع السوري في العقود الأخيرة مواكبة الثورة السورية.
تبدأ الرواية من زمن الزلزال الذي أصاب مناطق حدودية مشتركة بين سورية وتركيا وكان زلزالا مدمرا.
الشخصية المحورية في الرواية منى / دنيا تروي بلغة المتكلم عبر مقاطع متتابعة السارد في الرواية هي نفسها. لكن الزمن متغير عودة للخلف في الماضي أو السرد في زمن الحاضر وكذلك متابعته في المستقبل.
منى / دنيا هي ذات الشخصية التي نتابع سردها الروائي لكن ضمن حالة شخصيتين في ذات وجسد واحد .
كيف حصل ذلك :
استيقظت منى / دنيا في ليلة الزلزال ٤ . ٢ . ٢٠٢٣م في مدينتها وحاولت ككل عائلتها ومن في البناء الذي تسكن به والحي ايضا ان يسارعوا بالخروج من منازلهم تفاديا من الانهيارات التي تصاحب الزلزال. لكنها لم تستطع النجاة فقد سقط عليها جدار وغابت عن الوعي واكتشفت بعد صحوها أنها قد اسعفت الى المشفى وتم انقاذها.
عادت منى / دنيا الى وعيها لكن عادت بشخصية اخرى ، لم يتغير اسمها فقط بل تغيرت شخصيتها. فهي غير ذاتها السابقة وكذلك زوجها وحتى اولادها. لقد تفاجأت ان لها زوجا ليس هو زوجها الذي أعاده لها وعيها الجديد بشخصيتها الجديدة. وكذلك الحال بأبنائها الاثنان الهاربين إلى أوروبا من جراء الحرب في سورية، وابنها الثالث الذي اعتقله النظام المجرم السوري لمشاركته في الثورة السورية. وابنتها التي تعيش معها ومع والدها زوجها في بيتهم.
لم تستطع منى / دنيا تقبل واقعها الذي فرض عليها لكنها وجدت نفسها مضطرة للتعايش معه، لكي تدرك من هي سابقا ولاحقا وتعرف كيف تقود حياتها إلى المستقبل. هي ليست ابنة الثلاثين كما تعتقد بل ابنة الستين وهي ابنة ذلك الرجل العصامي الذي اضطر ان يقايض ضابطا مسؤولا عند النظام بزواج ابنته لينقذ نفسه من احتمال اعتقاله بعد وقوعه ضحية احتيال الضابط وسطوته. زوج ابنته له زواجا لم يكن ابدا ناجحا ؛ بل جحيما عاشت منى / دنيا في كنفه لعقود. لقد كانت قد أحبت أحدهم ولم تستطع الزواج منه. وتزوج غيرها بعدما تزوجت هي من الضابط المسؤول. انجبت منه أبناءها الذكور الاثنين. وعادت بعدها للتواصل مع حبيبها السابق بعلاقة جسدية لتنجب منه ابنها الذي اسمته ربيع. وأنجبت كذلك ابنتها التي تعيش معها ومع زوجها الضابط.
عاشت منى / دنيا حياتها في عائلة كبرت وهي تعي ان لها اخت اكبر منها وأجمل. عاشت غيرة الاخوات ومراهقة تصحبها منافسة على حبيب يسكن في الجوار. أدت بشكل غير مباشر لإصابة عين أختها حيث فقدت النظر واحتاجت لعمليات كثيرة للعلاج. ومع ذلك لم تستطع أن تظفر بالحبيب فقد خطفها الضابط وجعلها عبدة في مملكته الصغيرة حتى مات بعد سقوط النظام السوري المجرم. تزوجت اختها بحبيبها وبقيت عقدة حياتها ذاتها.
تابعت منى / دنيا اكتشاف ذاتها وحياتها السابقة. فقد اكتشفت انها كانت منغرسة في مجتمعها وفق سلوكيات معينة منذ عقود في الحي الذي تسكنه. مع كل المحيطين بها. وأنها استطاعت التكيف وبدأت تصنع لها بدائل عن سوء حياتها الشخصية وذلك بالتواصل مع كثير من النساء لتقوم بدور قارئة فنجان مأجور عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ونطل عبر ذلك على واقع المآسي الاجتماعية التي نعيشها في بلادنا. وخاصة انعكاسه على المرأة السورية. الزواج المأزوم، الحب الغير محقق، العلاقات العائلية والاجتماعية الفاشلة، الخيانات الزوجية المزدوجة من الجنسين والضياع العام.
كل ذلك بخلفية الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب السوري جميعه.
كما نتابع محاولة منى / دنيا ان تتابع ما تعيشه عند معالجة نفسية لتكتشف ان الهم عام وان المعالجة نفسها تحتاج لمن يسمعها ويساعدها في إدراك مشكلتها وحلها.
الكل مأزوم وفي واقع مأزوم. هناك محاولات التفاف على الحياة بمظالمها وقسوتها، ولا حل.
نعم لا يوجد مباشرة بالحديث عن الجانب العام: واقع السوريين من سنوات الظلم والقتل والتشريد والتدمير الذي صحب رد النظام المجرم على ثورة السوريين. لكنه يظهر بوضوح من حديث شخصيات الرواية عن واقع حياتهم الدمار والفاقة والتشرد والظلم والاعتقال والخوف والموت العبثي والذل الذي أصبح واقع السوريين جميعا.
تكتمل سلسلة إعادة وعي منى / دنيا لذاتها السابقة وذاتها الجديدة ودرجة التطابق والاختلاف حيث تنتصر الثورة السورية ويسقط النظام وتعيش منى / دنيا ككل السوريين فرحتها بسقوط النظام ويتوج ذلك ذاتيا بموت زوجها الضابط السابق الذي كان قد أصابه فالج ساعدها على الانتقام منه ولو نفسيا ولفظيا وعبر الإهمال لعلها تسترد بعضا من ذل عاشته لعقود.
انتصرت الثورة ومات زوجها رمز قهرها الذاتي وانتظرت أن يخرج ابنها من المعتقل ككل السوريين الذين نكبوا بابنائهم الشهداء والمعتقلين وظهر بعد انتصار الثورة ما عاشه أبناء الشعب السوري في معتقلاتهم من جحيم.
اثلج صدرها زواج ابنتها وإعادة اخذها فرصة حياة جديدة بعد زواج سابق فاشل.
تنتهي الرواية محتفلة بانتصار الشعب السوري وثورته.
في التعقيب على الرواية اقول:
لا بد من التأكيد على أن مفاجأتي الدائمة عند قراءة كل رواية جديدة للمبدعة ريما بالي انها تجد مسارا جديدا يجعلني اقرأ بمتعة وتعجب وتتبع دقيق وكأني احلل احاجي واكتشف مستويات جديدة من الخبرات الإنسانية.
ليس غريبا ان تكون ريما بالي كاتبة نسوية بامتياز فعالم المرأة عندها هو الأولوية ومنه وعبره ترى العالم كله. هو العالم طبعا وهذا العالم النسوي متعدد ومتشعب ومتنوع الى درجة مذهلة. فكل امرأة كون قائم بذاته فيه الطموح والغيرة و التحدي والندية والأثرة والإيثار وحتى المغامرة القاتلة أحيانا. وهذا الكون النسائي قيد التشكيل ، فعالم المرأة متغير متحول يندفع دائما تجاه ما تراه يحقق ذاتها.
اتوقف امام عنوان الرواية : لم نأكل التفاح . فهي اشارة الى تفاحة آدم وحواء وقصة أكلها و عقابهم بالنزول من الجنة الى الارض. ليس تنصلا من المسؤولية تلك. بل تأكيدا أن الحياة التي قوامها امرأة ورجل فيها كل أسباب دخول الجنة ونعيمها ودخول النار وجحيمها. وهنا امتحان كل امرأة ورجل بكيفية تعاطيهم مع التفاحة التي هي الحياة وشهواتها وممنوعاتها وكل ماتبع ذلك في حياة البشر منذ وجودهم.
نظلم ريما بالي ان قلنا انها نسوية وفقط. بل هي نسوية ابنة مدينتها حلب التي تعشقها وتدور في فلكها عوالم ريما بالي الروائية. وهي ابنة سورية أيضا مخلصة لواقع حياة الناس في بلادنا وإن لم تغص في عمق ذلك كباحثة اجتماعية سياسية لكنها عبر اشاراتها ضمن عملها الروائي توحي انها تعرف ان ما يعيشه السوريين من خراب اصاب رجالهم ونسائهم ينهل من هذا الواقع القاسي الفاسد والظالم لعقود طويلة.
كانت فرحة بطلة الرواية ومن ثم ريما بالي نفسها بانتصار الثورة فرحة حقيقية اختصرت فرحتنا كلنا: سوريين ذاقوا كل على حدى من ويلات هذا النظام عبر عقود. قتل وتدمير وتشريد واعتقال و… الخ.
المهم تحررنا واصبحنا امام فرصة بناء حياة جديدة حياة قوامها الحرية والكرامة الانسانية والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل.