
يعتبر الفرنسي بيار كونيسا في كتابه “صنع العدو ـ كيف تقتل بضمير مرتاح” (ترجمة نبيل عجّان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2015)، أن الحروب الأهلية والمحلية شكلت في العقود الثلاثة المنصرمة التي تلت انهيار نظام القطبين، نموذجاً لصناعة العدو الداخلي والخارجي في كل من أفريقيا وآسيا، لذلك توقع كونسيا أن يترافق الطلب الكبير على إنتاج العدو مع تزايد الطلب على الحروب الأهلية التي تجعل من المذبحة سلاح حرب خلال السنين المقبلة. ويبدو أن نبوءة كونيسا قد تحققت مع اشتعال عديد من الحروب الأهلية في آسيا وأفريقيا بعد صدور الكتاب (صدر بالفرنسية عام 2011)، فقد شكلت القارتان الآسيوية والأفريقية، وخاصة البلدان العربية، وبلدان آسيا الوسطى سابقاً، ومناطق الحدود الجيوسياسية، مواقع هذه الحروب. حيث تعمل كل جماعة على احتكار أمنها الخاص من خلال مليشياتها الخاصة، كما تشكل هذه المناطق خزانات لا تنضب لهذا النوع من الحروب، لأسباب عدة، قد تكون الهويات الطائفية أو العرقية أو القبائلية الأسس التي تُبنى عليها صورة العدو، حيث يصبح التعامل مع عدو الوطن الخارجي مشروعاً في مواجهة العدو الأهلي. وكأن الحرب الأهلية هي استباحة لكل الضوابط والقيود، حرب منفلتة من كل ضابط.
بالتأكيد، الحروب الأهلية أبشع أنواع الحروب وأكثرها وحشية، فهي ذات طبيعة إبادية، حيث يتم اختراع حدودها وطبيعة العدو داخل الحدود الوطنية، التي يُفترض أن الجميع متساوون فيها بصفتهم مواطنين، وبالتالي أعداؤهم خارج الحدود الوطنية. لكن المفترض لا يحدث في الحروب الأهلية، فهي تملك منطقها وتحفر خنادقها وقبورها العميقة في الداخل الوطني. وإذا كانت الحروب بين الدول ترخيص للذات الوطنية ممنوح شرعاً لقتل أناس لا نعرفهم ينتمون إلى بلد آخر، من منطق نحن على حق وهم على باطل، فإن الحروب الأهلية ترخيص لقتل أناس نعرفهم حق معرفة. ويكون العدو فيها حميماً (الجار السابق، زميل المدرسة أو الجامعة السابق، الصديق السابق…) ويصبح العنف سلسلة متصلة تبدأ في فترة السلام التي تسبق الحرب بشيطنة الآخر المحلي أو تصغيره حتى يصبح أقل شأناً منا، وبالتالي يستحق أن نسحقه. وتشكل الحرب ذروة له من خلال محاولة إبادة الآخر بذريعة أن علينا أن نقتله قبل أن يقتلنا هو، لأننا لا نستطيع أن نتعايش معه، إما “نحن” أو “هم” الإلغائي الإبادي. وتستمر العملية الإلغائية، حتى بعد توقف القتال، من خلال القمع الذي تمارسه الجهة المنتصرة بوصف سياسة المنتصر تقوم على إلغاء الآخر واضطهاده لأن من لم نستطع إبادته تماماً، يتحول من عدو معلن في حالة الحرب إلى عدو خفي، وهذا ما يجعله عدواً أخطر حسب نظرية المؤامرة، التي تشكل واحدة من قواعد الحرب الأهلية، ما يستدعي سحقه في الحرب والسلم.
تكتمل صناعة العدو بتوظيف نظرية المؤامرة لإعطاء العدو المزيد من المساحيق الجمالية بوصفه مكملاً لصورة الذات
لا توجد خطوط للجبهة في الحروب الأهلية التي تشن من دون إعلان مسبق، فالجبهة تخترق المجتمع والنفوس والجغرافيا، ويتم دفع الهويات الجزئية والمناطقية والدينية والقبائلية إلى أقصى حالاتها الإلغائية العنيفة، حيث تصبح المجازر عبارة عن ردات فعل استباقية معممة ضد العدو الداخلي، الذي سيذبحني إذا لم أسبقه إلى ذلك.
انتقال المجتمع من الحالة السلمية إلى حالة الحرب الأهلية يأتي من خلال تحولات عميقة في المجتمع، تجعل التعايش بين الفئات أو الطوائف أو الطبقات الاجتماعية غير ممكن، وهو ما يحصل عادة عندما تستأثر فئات بعوائد المجتمع وتمنع الآخرين منها، وغالباً ما تكون فئوية السلطة الحاكمة وآليات حكمها وتحكمها الإلغائية السبب الأساسي المفجر لهذه الصراعات، التي تصل إلى مستوى الحرب الأهلية المدمرة.
السطح الراكد الذي تظهر عليه البلاد قبل الذهاب إلى الحرب الأهلية ليس مؤشّراً إلى استقرار البلد، بقدر ما هو سطح كاذب
والسطح الراكد الذي تظهر عليه البلاد قبل الذهاب إلى الحرب الأهلية ليس مؤشّراً إلى استقرار البلد بقدر ما هو سطح كاذب، لأن المفاعيل العميقة تجري تحت هذا السطح الراكد. ولنا في تجارب الربيع العربي نموذجاً لذلك، سواء في الدول التي ذهبت بعيداً في حرب أهلية، كحالات سورية واليمن وليبيا، أو تلك التي لم تصل فيها الصدامات إلى هذه الحدود، نموذج مصر وتونس. ولكن في جميع الحالات، لم تكن هناك أدلة تقول إن هذه البلدان ذاهبة باتجاه الانفجار، رغم وجود عوامل الانفجار منذ سنوات طويلة. ولم يكن احتمال الحرب الأهلية وارداً في سيناريوهات مستقبلها. ولكن عندما تنفجر الصراعات الدموية الداخلية، من الصعب التحكم بمسارها، لأن عشرات العوامل تعمل على دفعها في اتجاهات مختلفة، ما يجعل عملية صناعة العدو أسرع العمليات في الصراع الأهلي، ويصبح القتل مهنة يتم تأجيرها لمن يرغب طالما الأيادي العابثة في أوضاع هذه البلاد أكثر من أن تحصى. وأسوأ ما في الحروب الأهلية أن جروحها العميقة تبقى تفعل فعلها حتى بعد انتهائها، ولكن ما يحصل في هذه الحالة ليس انتهاء الحرب الأهلية، بل نزع مظاهرها المسلحة، ولكنها تستمر بوسائل أخرى والخنادق نفسها تبقى قائمة بين الأطراف المتصارعة.
تخترق عملية بناء العدو المجتمع بوصفها عملية اجتماعية وسياسية وثقافية، تساهم فيها النخب الثقافية بفعالية كبيرة. تكتمل صناعة العدو بتوظيف نظرية المؤامرة لإعطاء العدو المزيد من المساحيق الجمالية بوصفه مكملاً لصورة الذات، هذه النظرية التي باتت مؤسّسة تجارية يعطيها الإنترنت منبراً ذا بعد عالمي. إنها وباء مستوطن كبير شبيه بأوبئة عالم الحيوان، يولد في زاوية من الكوكب وينتشر بسرعة عبر الإنترنت ويتحول إلى فيروس متحول، كما يقول كونيسا.
كارثة الحروب الأهلية الإبادية أن أطرافها، لعوامل كثيرة، لا تنجح في إنجاز أهدافها الإبادية، وحتى عندما يكون هناك منتصر ومهزوم. وإذا لم تكن هناك أسس للانفصال الجغرافي بين الأطراف المتصارعة، كالحالة اليوغسلافية، يترتب على الأطراف المتناحرة أن تعود إلى التفاوض من أجل العيش المشترك تحت ذاكرة الدم الذي سال ببن الأطراف، كالحالتين اللبنانية والرواندية وغيرهما. فالحل الذي لم تصل إليه الأطراف في زمن التعايش، تعود إلى إنجازه بعد اندلاع الصراع الدموي بشروط أسوأ، وعلى معطيات تاريخية دموية تنتج كراهية متبادلة وذاكرة دم زمناً طويلاً.
المصدر: العربي الجديد



