الصهيونية في مواجهة العالم

سمير حمدي

                                             

انتقاد إسرائيل؟ “مستحيل”، من الشائع أن الدولة العبرية تتمتع بمكانة استثنائية في الغرب. ويرتبط موضوع إسكات الأصوات الناقدة لهذا الكيان بموضوع “اللوبي اليهودي”، الذي أصبح منذ القرن الماضي مهيمناً، وأي انتقاد لجرائم الصهيونية يصنف مباشرة في خانة معاداة السامية وتؤدي بصاحبها إلى المحاكمة، وكانت تجربة الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي شاهداً على قوة الهيمنة الصهيونية في المجتمعات الغربية وهي تعتمد بالضرورة على مجموعة من الروافع والشخصيات والهيئات والجماعات المتأصلة في المؤسّسات والحياة السياسية الغربية.

عندما ظهرت الصهيونية السياسية في أواخر القرن التاسع عشر ما كانت لتنجح وتحقق أهدافها وهي احتلال أرض فلسطين لولا وجود بيئة سياسية ملائمة إلى أقصى حد في الغرب ساهمت في صنعها كثير من الشخصيات غير اليهودية من ذوي النفوذ عبّرت عن إيمانها بالفكرة الصهيونية وأيدت قيام ما يُسمى دولة قومية يهودية في فلسطين بوصفها حقا لليهود، طبقا لبرنامج “بازل” ولما ورد في كتاب الدولة اليهودية لصاحبه تيودور هرتزل.

تمكّنت الحركة الصهيونية من استخدام كل أساليب الدعاية الملائمة وتوظيف الجانب الديني والتركيز خاصة على السردية المفترضة للإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود على يد النازيين للتأثير على الرأي العام الغربي. غالباً ما اعتمدت الدعاية السياسية الصهيونية على نشر معلومات كاذبة للترويج لأيديولوجيا عنصرية وإلحاق الضرر بفئات معينة من الناس أو المعارضين بدعوى معاداتهم السامية. واستخدمت اللوبيات المؤيدة للصهيونية بنجاح أسلوب “الكذبة الكبرى”: بترديد رواية معينة مراراً وتكراراً، يصبح تصديقها أسهل. إذا استطاع مروّجو الدعاية إقناع المواطنين بتصديق “كذبة كبرى”، فيمكنهم استخدام هذا الدعم لتبرير أفعال أخرى. وهكذا ساهمت الرواية التي زعمت مراراً وتكراراً أن عدداً مهولاً (ستة ملايين يهودي) قتلوا في “غرف الغاز” في أثناء الحرب العالمية الثانية في تبرير الحق اليهودي في الحماية الاستثنائية، بل وجعل نقد الاحتلال الصهيوني نوعا من المعاداة لليهودية في خلط متعمد بين اليهودية الديانة والصهيونية السياسية التي مارست أبشع اشكال الاضطهاد والتمييز والقتل على الهوية في المنطقة العربية.

غالباً ما اعتمدت الدعاية السياسية الصهيونية على نشر معلومات كاذبة للترويج لأيديولوجيا عنصرية وإلحاق الضرر بفئات معينة من الناس أو المعارضين بدعوى معاداتهم السامية

غير أن تحولات كثيرة طرأت على الشارع الغربي في أوروبا والولايات المتحدة، ومع تصاعد العدوان على غزّة وانكشاف مظاهر الإبادة الجماعية فقد الكيان الصهيوني الكثير من مظاهر التعاطف من دون أن يعني هذا خسارته لنفوذه السياسي والإعلامي، لكن من الأكيد أن صورة “إسرائيل” لم تعد هي ذاتها في المخيال الشعبي الغربي، أعني تلك الدولة الديمقراطية الصغيرة التي يهددها جيرانها المتوحشون، وإنما تحول المشهد في اتجاه مضاد للدعاية الصهيونية. كان وصف “معادٍ للصهيونية” في أواخر القرن التاسع عشر، إبان تطور الحركة الصهيونية، يعني معارضة مشروع إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين. أما اليوم، فتُعبّر هذه الكلمة عن رفض لأيديولوجيا عنصرية، بعد أكثر من 75 عاماً على التأسيس الفعلي لدولة إسرائيل. ويكفي القول إن معناها قد تطوّر تطوراً عميقاً، حتى وإن كانت الدعاية المؤيدة لإسرائيل، في سياق الحرب العدوانية على غزّة، تسعى إلى الحفاظ على نظرية الاستمرارية لتعزيز شرعية الدولة العبرية.

اليوم، ليس كل من يُعلن نفسه “مناهضاً للصهيونية” يتمنّى زوال إسرائيل تماماً، بل يرى الجميع في الصهيونية أيديولوجية استعمارية وعنصرية وعدوانية. وهكذا، خلال ما يزيد قليلاً عن قرن، اكتسب مصطلح “صهيوني”، الذي كان في بداياته يُشير إلى حلم شعب صغير يرغب في بناء دولته، معنىً إجرامياً، ويُستخدم الآن كإهانة. بل أصبح يُتيح شيطنة اليهود أينما كانوا ومهما كانت رؤيتهم للوضع في الشرق الأوسط، مُطلقاً ضدهم، باسم العدالة ومناهضة العنصرية، كراهيةً شرسة تُترجم إلى مسيرات ومظاهرات واحتجاجات لم يعرف لها الغرب نظيراً من قبل. كما تُساهم هذه الإهانة في وصم كل من يدافع عن إسرائيل أو يُظهر تعاطفاً مع العدوان على غزة بوصفه مؤيداً للجرائم ضد الإنسانية.

يكشف تعاظم منسوب النقد الرسمي من حكومات غربية مختلفة لسلوك الاحتلال الصهيوني في غزّة عن تحوّل حقيقي في المزاج الشعبي الغربي. ورغم عدم وجود إجراءات فعلية حاسمة تضع حدّاً للعدوان إلا أن مجرد ظهور مواقف ناقدة وبشكل علني للكيان الصهيوني هي مؤشر لا تخطئه العين لحالة الضيق الغربي من حالة الصلف الصهيوني المتصاعد الذي يتصرف خارج كل قواعد السلوك الدولي القويم. بل إن دولاً مثل أيرلندا، وإسبانيا، وبلجيكا، ومالطا، وسلوفينيا، علاوة على النرويج أصبحت تتبنى خطاً ناقداً للسياسات الصهيونية، وهو ما يعبر عن تحوّلات حقيقية يشهدها الغرب الذي مثل تاريخياً الحاضنة التي دعمت قيام دولة الاحتلال. وفي ظل تصاعد حالة الاحتجاج والنقد لدى طلبة الجامعات الغربية والجيل الجديد عموماً، فلا أحد يمكنه أن يتوقع طبيعة ردات الفعل الممكنة إزاء الهيمنة الصهيونية التي تتعامل مع العالم باستخفاف ستدفع ثمنه عاجلاً أو آجلاً.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى