
ـ تدخل سوريا اليوم مرحلة انتقالية مصيرية وحاسمة ، حيث تتصاعد الحوارات والنقاشات بين مؤيد ومعارض حول جدوى إعادة تشكيل المؤسسة التشريعية ، وحول شكل المجلس البرلماني المقبل وطبيعته ودوره المنتظر في ظل التحديات السياسية والاجتماعية الراهنة التي تتجاوز حدود السياسة التقليدية لتلامس جوهر الكيان الوطني ذاته. ومن هذا المنطلق ، تتجلى الإشكالية الأساسية ليس في مجرد تغيير الاسم من ” مجلس الشعب ” إلى تسمية أخرى ( مثل مجلس النواب أو مجلس الأمة ) ، بل في التساؤل الأعمق الذي يطرح نفسه : أيّ برلمان نريد ..؟ ما هي وظيفته ودوره ..؟ وأي معنى يجب أن يمثله ويجسده ..؟
ـ إن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في تغيير الاسم أو إعادة تشكيل المجلس كإطار شكلي ، بل في القدرة على بناء برلمان قوي يعكس الإرادة الشعبية الحقيقية ، عبر انتخاب أعضاء يمثلون صوت المواطنين ويعبّرون عن معاناتهم وآمالهم وتطلعاتهم ، وفي الوقت ذاته يشكّل منبراً للكفاءات والخبرات القادرة على قيادة مسار التحول التاريخي السياسي والدستوري والقانوني للبلاد .
ـ إن الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد تفرض على السوريين استخلاص الدروس من أخطاء الماضي ، والارتقاء بوعيهم السياسي إلى أعلى درجات المسؤولية التاريخية. فالحاجة الملحّة ليست إلى برلمان شكلي يكرّس عقلية ” الدويلة ” ذات الصبغة الواحدة المرقّعة بهوامش الألوان الباهتة ، بل إلى مؤسسة تشريعية متينة ومتماسكة تستمد قوتها من مفهوم ” الأمة ” بما يحمله من شمول ووحدة وهوية جامعة ، قادرة على إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة ، وفك طلاسم العلاقة الجدلية بين مفهوم الوطن وواجبات ومسؤوليات المواطن من جهة أخرى. كما أنها قادرة على حماية الدولة من مشاريع التفكك والتجزئة والانقسام ، وصون وحدة ترابها الوطني ، وإرساء منظومة قوانين وتشريعات تكفل العدالة والمساواة وحقوق المواطنين .
ـ هذا هو البرلمان الذي يستطيع أن يفتح الآفاق أمام مسار انتقالي حقيقي يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي ، ويحمي مستقبل البلاد والأجيال القادمة. فلا يكون أداة لتغطية التنازلات أمام الأزمات ، بل جسراً نحو حياة حرة كريمة وعهداً جديداً تتجسد فيه فكرة ” الأمة ” في أبهى معانيها وأوسع مقاصدها .
الحالة السورية : الفرص والتحديات
ـ في العودة إلى الحالة السورية ، نجد أن البلاد تواجه اليوم تحديا مزدوجا يتمثل في إعادة بناء الدولة من جهة ، وتأسيس نظام مؤسساتي جديد من جهة أخرى ، وذلك في ظل ظروف داخلية وخارجية شديدة الت\اخل والتشابك والتعقيد.
ومن هنا .. فإن دور البرلمان السوري المقبل لا يمكن أن يقتصر على الوظائف التشريعية التقليدية ، بل يتجاوزها ليضطلع بأدوار استثنائية تُحاكي خصوصية المرحلة الانتقالية وتستجيب لمتطلباتها التاريخية .
فأولا ـ يقع على عاتقه ترسيخ وحدة الدولة الوطنية ومنع أي نزعات انفصالية قد تؤدي إلى إضعاف الدولة المركزية ، وذلك من خلال عملية تصالحية وتشاركية تجمع ممثلين حقيقيين عن جميع المحافظات السورية ومختلف مكونات وأطياف المجتمع السوري تحت قبة مؤسسة واحدة تُجسّد الانتماء والهوية المشتركة .
ثانيا ـ سيكون البرلمان مطالبا بإضفاء الشرعية على السلطة التنفيذية الجديدة ، عبر ممارسة دوره الرقابي في منح الثقة للحكومة والمصادقة على السياسات الكبرى والمعاهدات الدولية ، بما يسهم في تعزيز استقرار البلاد داخليا ، وترسيخ حضورها في المحافل الإقليمية والدولية .
ثالثا ـ لا بد أن يسهم في إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة على أسس المشاركة والشفافية والمساءلة ، بدلا من الاستبداد والطغيان واحتكار القرار والسلطة الذي عانت منه سوريا لعقود طويلة .
رابعا ـ سيكون البرلمان شريكا أساسيا في الإشراف على عملية إعادة الإعمار ، وذلك من خلال مراقبة حسن إدارة الموارد وضمان الشفافية في استخدام المساعدات الدولية والاستثمارات ، بحيث تصبّ في خدمة الشعب ولا تتحول إلى أداة جديدة للفساد والمفسدين ، أو أرضا خصبة للمحاصصة القائمة على الولاءات بدلا من الكفاءات والخبرات .
ـ ومن هنا .. يمكن القول إن البرلمان السوري المقبل ليس مجرد هيئة تشريعية تقليدية ، بل مؤسسة وطنية ذات دور تأسيسي محوري ، تتجسد مهمتها في حماية وحدة الدولة ، وتعزيز شرعيتها ، وإعادة بناء الثقة بين السلطة والمجتمع ، والمشاركة في صياغة مستقبل جديد أكثر حرية وعدلا وتوازنا .
التحديات المتوقعة
ـ لا شك أن البرلمان السوري الجديد سيواجه تحديات استثنائية ومصيرية بالغة الأهمية. فهو مطالب بالعمل في بيئة ما بعد الحرب ، حيث تتزاحم الأولويات بين إعادة الإعمار ، والمصالحة الوطنية ، وبناء مؤسسات الدولة الحديثة. كما سيصطدم بضغوط داخلية ناجمة عن تنوّع القوى السياسية التي لا يجمعها إطار فكري أو أيديولوجي موحّد ، فضلا عن الضغوط الخارجية من قوى إقليمية ودولية تسعى لترسيخ مصالحها في سوريا ولو كان ذلك على حساب مصلحة الشعب السوري. حيث تحوّلت الساحة السورية عمليا إلى ميدان مفتوح للتجاذبات الدولية والإقليمية بحكم موقعها الجيوسياسي الحيوي في المنطقة .
ـ ومع ذلك ، فإن هذه التحديات المصيرية ذاتها تمنح البرلمان المقبل دورا أكثر تميزا وأهمية. ” فمجلس الأمة ” أو ” مجلس النواب ” الجديد يمكن أن يشكّل المؤسسة الأنسب والأقدر على جمع السوريين حول رؤية وطنية موحّدة ، وذلك من خلال توفير منبر فكري وقانوني جامع لتسوية الخلافات عبر الحوار والنقاشات ، بدلًا من الانجرار إلى دوامات العنف والصراعات. ومن هنا ، يصبح من الضروري استحضار دروس التاريخ والتأمل بعمق في تجارب الشعوب الأخرى ، لفهم كيف يمكن للبرلمان أن يتحول إما إلى قوة ايجابية في بناء الدولة أو إلى ساحة لتعميق الصراعات و الانقسامات .
درس من التاريخ ـ لا برلمان فاعل بلا دولة قوية
ـ عند النظر إلى التجربة الألمانية في القرن التاسع عشر نجد أنها تحمل عبرة بالغة الأهمية. ففي عام 1848 اجتمع ممثلو الولايات الألمانية في برلمان فرانكفورت بهدف تأسيس جمعية وطنية وصياغة دستور موحّد للبلاد ، إلا أن المحاولة باءت بالفشل وانهار المشروع بسبب غياب سلطة تنفيذية قوية وجيش مركزي قادر على حماية هذا المشروع التشريعي من جهة ، ولأن فكرة الدولة كانت أضعف بكثير من تناقضات واقعها التي رافقت تلك المرحلة من جهة أخرى .
ولكن بعد عقدين من الزمن ، تمكن ” بسمارك ” من إعادة توحيد الإمبراطورية الألمانية عام 1871 ، وذلك من خلال سلسلة من الحروب الدامية والتحالفات البارعة. حيث لم يأتِ التوحيد عبر المقالات أو القاعات أو المنابر والخطب ، وإنما عبر إرادة سياسية صلبة جسّدها ” بسمارك ” بالحزم والقوة الصارمة ، وهي ذات القوة التي مهدت لاحقًا لوضع حجر الأساس لبرلمان مؤثر وفعّال ( الرايخستاغ ) داخل دولة مركزية قوية ومتماسكة .
ومن هنا يمكننا القول : لا برلمان فاعل بلا دولة قوية ، ولا تشريع بلا سند من سلطة تنفيذية متينة. فالمؤسسة التشريعية لا يمكن أن تنجح وتنبض بالحياة إلا داخل كيان وطني موحّد قادر على حمايتها وصون دورها .
البرلمان وسيلة ناجعة لمواجهة الضغوط الخارجية
ـ يمكن للبرلمان السوري الجديد أن يشكّل آلية ذكية وخط وقاية منيعا في مواجهة الضغوط الخارجية. ففي المراحل الانتقالية غالبا ما تتعرض الدول الناشئة أو الخارجة من أزمات كبرى لضغوط سياسية واقتصادية هائلة تمارسها أطراف إقليمية ودولية متداخلة ، تسعى إلى فرض أجنداتها السياسية والاقتصادية ، بل وحتى الاجتماعية ، على السلطة الجديدة .
ـ غير أن وجود برلمان متنوع التمثيل ، يضم مختلف الأطياف السياسية والمكوّنات الاجتماعية ، من شأنه أن يحوّل هذه الضغوط من شأن تنفيذي ضيّق ومحدود إلى نقاش وطني واسع ومفتوح داخل المؤسسة التشريعية. وبهذا تستطيع السلطة التنفيذية الهروب من عبء الاستجابة المباشرة للابتزاز السياسي أو الاقتصادي ، وذلك من خلال إحالة القضايا الكبرى إلى البرلمان لمناقشتها علنا والبتّ فيها بصفته الجهة الشرعية الممثلة للشعب. وهذا بدوره يضفي على القرارات النهائية شرعية وطنية راسخة ، ويحول دون تحميل السلطة و الحكومة وحدهما مسؤولية القبول أو الرفض .
وبذلك يتحول البرلمان من مجرد مؤسسة تشريعية تقليدية إلى درع سياسي متين يحمي السيادة الوطنية ، حيث يمنع أي طرف داخلي أو خارجي من استغلال الأزمات أو ممارسة الابتزاز والضغوطات أو فرض الوصاية على الدولة .
ـ وفي النهاية ، يبقى نجاح ” مجلس الأمة ” أو ” مجلس النواب ” المرتقب مرهونًا بأدائه لمهامه ومرتبطًا بشكل وثيق بحرية اختيار أعضائه عبر انتخابات حقيقية تعبّر عن الإرادة الشعبية. إذ إن أي برلمان يُشكَّل بطريقة شكلية غير مدروسة بعناية ودقة متناهية أو موجَّهة لخدمة مصالح ضيقة ، قد يتحوّل من خط وقاية في وجه الضغوط الخارجية إلى مجرد غطاء لتنازلات مصيرية تمس استقلال الوطن ووحدة أراضيه .
ـ ومن هذا المنطلق يظلّ الأمل معقودا على حكمة العهد الجديد و وعي الشعب السوري وإرادته الحرة في رسم ملامح هذا البرلمان الجديد ، ليكون تجسيدا لروح الأمة ونهضتها ، وحارسا لسيادتها واستقلالها ، وجسرا وثيقا نحو مستقبل أكثر حرية وعدلا وتقدما وازدهارا .
كاتب وباحث سوري مقيم في ألمانيا
المصدر: رأي اليوم