سورية.. أي فائدة للبرلمان في ظل الديكتاتورية؟

إليزابيث بيكار

في وقت كانت سورية لا تزال منهكة بالحرب، منقسمة وجريحة، دعا النظام، في يوليو/ تموز 2020 إلى انتخابات تشريعية، فما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من هذا الاقتراع؟ ما الفائدة اليوم من الاهتمام بمجلس الشعب السوري (البرلمان)، الذي نظّم تجديدَه أربع سنوات نظام الأسد في يوليو/ تموز الماضي؟ تمسّك هذا النظام بالروتين المؤسساتي يعود إلى استراتيجيةٍ لا يوقفها لا الواقع الإنساني (منفى أو نزوح داخلي لأكثر من نصف سكان البلاد الفارّين من الأماكن المدمرة)، ولا البداهة السياسية.
كان من الواضح، منذ السبعينيات، أن مجلس الشعب مجرّد مسرح يسمح للسلطات باستعراض نفسها وسرد خرافاتها عن طريق استعمال الوعود تارة، والوعيد تارة أخرى. ومع ذلك، إذا كان البرلمان مجرّد ديكور، فإن البرلمانيين يمثلون مستوى وسيطا (بين السلطة والمجتمع) في هيكل السلطة في سورية، أو، وفق تعبير زياد عواد وأنياس فافييه، مؤلفي دراسة رائعة عن انتخابات 2020، هم تعبير عن تشكيل هياكل السلطة، فهم أفراد حقيقيون، وهم، عن قصد أو غير قصد، عاملٌ في الديناميكيات التي تنسج البلد. ومن هنا يأتي الاهتمام بهويات الممثلين المنتخبين في عام 2020.
لا تهدف هذه الدراسة إلى تقديم عرضٍ عن العملية الانتخابية، كما أنها ليست متابعةً لعمل المنتخبين خلال الفترة التشريعية، فهي تتمثل في عملية جمع دقيقة، والأكمل قدر الإمكان، للخصائص الفردية للأعضاء المنتخبين حديثًا، وفق منظور مقارن.
تسمح منهجيتها الدقيقة للمؤلفين بإحداث تقدّم ملحوظ في مجال معرفة طبيعة السياسة وسيرها في سورية “ما بعد الحرب”، فمن خلال التحرّر من غموض نظام انتخابي بائد، لم يعد يخفي وهن حزب البعث، فهما يكشفان عن تأثير بعض شخصيات النظام، وعن الأهمية المتنامية للمقاولين الجدد الذين صاروا ضروريين له. وأخيرًا، هما يستعرضان التغييرات المهمة التي حصلت في التمثيل البرلماني، وهي صدى للتحولات الجذرية في المشهد البشري في سورية.
المسكوت عن هندسة انتخابية
أثريت المعلومات عن الحياة السياسية السورية بشكل واسع في السنوات الأخيرة، فالتحقيق الذي أجراه المحلل السياسي الألماني، فولكر بيرثيس، سنة 1990، واستند إلى تفحص الصحافة، ولقاءات مع شخصيات في السلطة والمعارضة، كان يركّز على حالات نموذجية وإيضاحية.
قام عواد وفافييه بعملية تقاطع بين مصادر متعدّدة: التصريحات الرسمية لأعضاء اللجنة القانونية العليا للانتخابات، الجريدة الرسمية، منشورات حزب البعث، بما في ذلك الجهوية والمحلية، كتابات ومواقع شخصية لمنتخبين وغيرهم من المترشّحين، وخصوصا صفحاتهم على “فيسبوك”، مواقع إلكترونية لوزارات ونقابات وغرف تجارية ووسائل إعلام رسمية ومعارضة ومن الخارج، ناهيك بـ90 مقابلة وحوارًا.
وقد وضعا دراستهما في منظور من خلال رسم مقارناتٍ بين المترشحين غير المنتخبين وأولئك الذين تم انتخابهم في المجالس التشريعية السابقة، وعلى الخصوص سنة 2007 (آخر المنتخبين قبل اندلاع الثورة) وأولئك الذين انتخبوا 2016. كما أدرجاها ضمن زمن طويل من الحياة البرلمانية في ظل نظام آل الأسد منذ عام 1973. وقد أنتجا بالتالي مجموعة واسعة التنوع من البيانات عن 250 منتخبًا في عام 2020: تاريخ الميلاد ومكانه؛ التعليم والشهادات؛ المهنة؛ الانتماء السياسي والنقابي والمؤسساتي؛ المسار العام؛ النشاط الاقتصادي؛ الروابط العشائرية والطائفية (الإثنية و/ أو المذهبية) والجهوية والموقع والوظيفة داخل مراكز السلطة، .. إلخ.
ومع ذلك، لا يقدّم المؤلفان دليلاً عن البرلمانيين، أكان أبجديًا أم مصنفًا حسب المحافظة أو الحزب السياسي، كما يتم ذلك تقليديا. لقد أحدث التدمير والتهجير القسري للسكان فجوة ضخمة بين “البلد الحقيقي” و”البلد القانوني”، ما جعل هذه التصنيفات الشكلية غير ملائمة. ولذلك، عمل عواد وفافييه على بناء تصنيفاتٍ أخرى، أقرب ما يمكن إلى الواقع. وعلى وجه الخصوص، عبر تقديم إحاطةٍ عن تمثيل جماعات الهوية المعينة في البرلمان، وإبراز، لدى الأعضاء المنتخبين الجدد، الانتماءات الاجتماعية والمهنية ومجال النشاط الذي يفسّر نجاحهم الانتخابي.
نحن بعيدون عن أن نجد فيها جميع أعضاء البرلمان. ولكن يوجد بعضهم في عدة جداول مخصصة لتوثيق أحد المواضيع التي تناولتها الدراسة: وجود أعضاء من الجناح المسلّح لحزب البعث في البرلمان الجديد، عسكريون سابقون أو أعضاء المليشيات؛ رجال أعمال؛ مقربون من مراكز السلطة الإيرانية… وقاعدة البيانات هذه يمكن تعديلها وإثراؤها. وكلما كانت أكثر اكتمالاً، صارت الدلائل أقوى، وكلما اتّضحت بصفة أكبر العمليات المنفذة لتحقيق هذه النتيجة، كان الناخبون والمراقبون أكثر يقظة في المستقبل.
قراءة لمشهد برلماني مدمّر
توفر الدراسة، في حالها، أداة مبتكرة للتحليل، وتسمح للمؤلفين باقتراح مسارات بحثٍ متعمقةٍ حول مواضيع عديدة مهمة، وقبل كل شيء التلاعب بحزب البعث الضعيف.
مثل ما كان الحال في الانتخابات التشريعية السابقة، عهدت عملية التحضير إلى حزب البعث، الحزب الذي دعاه بشار الأسد إلى “تجديد نفسه” في تدخله اللافت خلال مؤتمره العاشر عام 2005. بعد ويلات الحرب والتعديل الدستوري لعام 2012 الذي ألغى احتكار “البعث” داخل الدولة، لا يزال الرئيس يسعى إلى استخدام الحزب لتأطير المجتمع وإدارته. تم اختيار المرشحين للمقاعد التي سيفوز بها الحزب (167 من أصل 250) من خلال تصويتٍ منظّم بين المناضلين. ويبرز وصف المساومات التي أحاطت بمسار “الانتخابات التمهيدية” داخليا ونسبة المشاركة المقدّرة من المؤلفين بـ 2.5٪ من أعضائها المسجّلين، الكثير عن وهنه وانهياره.
يظهر عواد وفافييه، على وجه الخصوص، التشوه المتزايد بين قواعد القانون المطبقة على الانتخابات البرلمانية والممارسات الفعلية في اختيار المرشحين والمنتخبين، ففي خلال خمسين عامًا، كانت التحولات الاجتماعية للمجتمع السوري جدّ كبيرة إلى درجة أن “العمّال” الذين خصصت لهم من حيث المبدأ القائمة “أ” (نصف المقاعد) لم يعودوا حصريا عمالًا أو فلاحين، أو حتى موظفين في القطاع العام. بل صار ضمن القائمة وبعدد كبير، أصحاب مهن حرّة وحتى مقاولون. لقد تحوّل التمييز الشكلي بين قائمة المرشحين (أ) والقائمة (ب) إلى مجرد أداة للتلاعب في الانتخابات.
وينطبق الأمر نفسه بخصوص التمييز بين منتخبي حزب البعث وحلفائه من “الجبهة الوطنية التقدمية” من جهة (مُنحت الأحزاب العشرة المتحالفة مع “البعث” في الجبهة الوطنية التقدمية 16 مقعدًا ضمن قائمة الوحدة الوطنية) والمنتخبين “المستقلين” الـ67 من جهة أخرى (حوالي ربع النواب. ويعد ذلك بعيدا عن الثلث الذي منحه حافظ الأسد للمستقلين في الانتخابات التشريعية عام 1990). يتأرجح تشكيل القوائم حتى اللحظة الأخيرة، ويهاجر المرشحون وفق الفرص. يتميز عديدون من الأعضاء المنتخبين حديثًا، والذين يشكلون 68.8٪ من حصة “البعث” في البرلمان، بسلوكٍ متقلبٍ ومسار عسكري حديث العهد.
قبل بضع سنوات، إن لم يكن قبل بضعة أشهر، كان هؤلاء النواب الجدد عسكريين ورجال مليشيات أو رجال أعمال، ولا شيء يشير إلى أنهم لم يعودوا كذلك. ومن الواضح أن الصفة الحزبية ليست هي الأهم، بل قرب المرشح من السلطة والرساميل المادية والاجتماعية والرمزية التي تحملها. يمثل حزب البعث، بالنسبة للنظام، أداة للسيطرة والاختيار. ويمثل حزب البعث، بالنسبة لرجال الأعمال والمسلحين الطموحين والباحثين عن تحوّل مدني، طريقا للوصول إلى دوائر السلطة، وذلك أبعد ما يكون عن مهمته التاريخية.
اقتصاد سياسي لنظام مسلح
وفي المقابل، يغطّي مصطلح “المستقل” أوضاعًا مختلفة، وعلاقات غير متجانسة مع الأحزاب الرسمية. وما يهم هو طبيعة (ومتانة) العلاقة التي يتم ربطها بين أحد أقطاب السلطة المؤثرين والمترشح، إلى درجة أن لدى النظام ممثلين منتخبين مخلصين من بين “المستقلين”، وكذلك في الجبهة الوطنية التقدمية. وتمثلت إحدى طرق ضمان ذلك في إتاحة الوصول إلى مجلس الشعب، لرجال قاتلوا من أجله، أو على الأقل إلى جانبه: ثمانية قادة سابقين في مليشيا البعث و16 عسكريا وضابط شرطة متقاعدين.
فضلا عن ذلك، عند تفحّص السير الذاتية للمنتخبين الجدد الذين يقدّمون أنفسهم أنهم قادمون من المجال المدني، نجد أن لدى ما لا يقل عن ستة منهم أيضًا مسار “الرجل المسلح”، ما يزيد في عسكرة البرلمان.
وتمثلت الطريقة الأخرى في قطع الطريق أمام الرجال الذين لم يعد ولاؤهم ثابتًا، أو رجال تقلصت فائدتهم. وبالتالي، فإن استبدال النواب المنتمين إلى النخبة الدينية أو القبلية من المذهب السني بشخصياتٍ جديدة، أصغر عمرا على الخصوص، يسمح بإحكام القبضة الديكتاتورية للقادة على الكوادر الوسطى للنظام، بعد انتهاء الحرب. ويمكن ملاحظة وجود استراتيجيات مماثلة في آسيا الوسطى وأفريقيا الاستوائية.
لا يحلل المؤلفان الحصة الأسدية الممنوحة لرجال الأعمال في مجلس الشعب لعام 2020 (43 منتخبًا) أنها إشارة لتبعية النظام تجاههم (وإنْ يجنِ أغلبهم فوائد كبيرة من تواصلاتهم مع رأس الدولة)، بل ينظر إليهم أنهم مشاركون في استراتيجية الافتراس التي يمارسها القادة في حربٍ يواصلونها الآن “بوسائل أخرى”. ويؤكد سقوط رامي مخلوف، الذي تم الاعتقاد أحيانا بأنه “أمين صندوق النظام”، فهو أيضا قائده الخفي، هذا التعنت إلى أبعد الحدود، والذي تشكل عقلانيته تحدّيا للواقع الاجتماعي والاقتصادي.
ومن الأمور المثمرة بشكل خاص في هذه الدراسة تحديد المجالات الأربعة الرئيسية لنشاط هؤلاء رجال الأعمال، لأن هذه المجالات أكثر من مجرّد واجهة للنظام، فهي المساحة التي تتشكل فيها الروابط بين السلطة السياسية والقوة الاقتصادية في سورية. يُبرز عواد وفافييه طغيان الصناعات الغذائية وقطاع العقارات والأراضي والأنشطة المصرفية والاتجار المالي، وأخيراً التهريب، النفط والمخدّرات والأسلحة خصوصا.
الاقتصاد السياسي للسلطة السورية خلال الحرب، وفي فترة ما بعد الحرب، يفضل التداول على حساب الإنتاج، والعمال غير المؤهلين؛ وهو اقتصاد يخضع لقرارات سياسية، من خلال تشريع مكثف بالمراسيم يطبّقه جهاز قضائي مأمور، ويستخدم القطاع الاجتماعي مصدرا للربح وخزانا للزبائن. .. تواجه هنا لجان دولية عديدة، ولا سيما التي تتخصص في تبنّي وتنفيذ عقوبات ضد الأنظمة المارقة، حالة تعد نموذجية، وإن لم تكن استثنائية.
إعادة تشكيل الأقاليم
تعجّ الدراسة بالمعلومات وسبل عديدة للتحليل. وهكذا الحال، بخصوص آثار الرعاية التي توفرها زعامات النظام، أو العدد المتدنّي والمتراجع للنساء في مجلس الشعب، وانتماء معظمهن إلى فئة المنتخبين البعثيين والمتحالفين مع “البعث”. فضلا عن التأكيد على البعد الاجتماعي الأبوي (كلهن تقريبًا زوجات وأرامل وبنات وأخوات مناضلين ومقاتلين)، وتبرز هذه الملاحظة كيفيات سيطرة ورعاية النظام.
ويخصص الجزء الثاني، المهم بالنسبة لتداعياته المستقبلية، للتغيرات في التمثيل البرلماني من حيث التوازنات العرقية والدينية. انخفضت نسبة النواب السُّنة (الطائفة ذات الأغلبية) من 76٪ في عام 2007 إلى 65٪ في عام 2020. ويبرز عواد وفافييه عملية تهميش ممثلي السنة. يضاف إلى ذلك، على الأرجح، انخفاض نسبة المشاركة لدى السنّة في الانتخابات بسبب التأثيرات المشتركة لنفيهم المكثف نحو الدول المجاورة واستياء السكان الأكراد والاستمرار المتواتر للحرب. وتشير النتائج الرسمية إلى نسبة مشاركة إجمالية بـ 33٪، ويمكن مقارنة ذلك بعام 2016، حيث وصلت إلى 57.56٪.
ولكن الأمر يتعلق بوضوح بإعادة توزيع تمثيل النظام بين الطوائف العرقية والدينية، بغض النظر عن تراجع نسبة المشاركة الانتخابية وتهميش “الحلقات الضعيفة” في سلسلة السلطة. .. مثال: لا يشكل الآن المسيحيون من جميع المذاهب الذين فرّوا من الحرب، ولجأوا إلى أوروبا والأميركيتين سوى 2٪ إلى 3٪ من السكان المقيمين في سورية. مع ذلك، ارتفع عدد المسيحيين المنتخبين في مجلس الشعب من 15 (5.9٪) في 2007 إلى 20 (8٪) عام 2020. عدد المنتخبين العلويين أكثر دلالة: 32 (12.8٪) في 2007 و44 (17.6٪) في 2020. انتقل عددهم في محافظة اللاذقية من عشرة منتخبين في 2007 إلى 17 في 2020. وفي حمص، ارتفع من سبعة إلى 13. قد يظهر مسح خرائطي دقيق تأثير التغيرات المحلية على تركيبة البرلمان في الهيمنة الحزبية على المجتمع السوري…
لأن هذا التغيير في الساحة السياسية يتبع ويرافق إعادة تشكيل من خلال حرب الأقاليم والفئات الاجتماعية في المجال الوطني. هذه الهندسة التي يتم تنفيذها لها تسمية في مفردات الرئيس السوري: “تحصين جهاز المناعة لمحاربة البكتيريا”. ولها تسميةٌ أخرى في العلوم الاجتماعية: التطهير العرقي. تجب دراستها من دون الخلط بين توصيف المجتمع السوري مجتمعا طائفيا في جوهره وتنفيذ النظام استراتيجية طائفية.
من خلال الكشف عن “تشكيل هياكل السلطة” في سورية، تدعو دراسة عواد وفافييه التاريخ والأنثروبولوجيا والجغرافيا الاقتصادية وتخصصات العلوم الاجتماعية الأخرى إلى التعمق في معاني وتداعيات انتخابات تبدو ظاهريا بدون رهانات كبيرة.
_________________________________________
(يُنشر بالتزامن مع موقع أوريان 21)

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى