
مع غروب شمس يوم الأحد، الخامس من شهر تشرين الأول الجاري، يكون السوريون قد أتمّوا إنجازاً يُعدّ من أهم الاستحقاقات التي تواجههم في مسار بناء الدولة؛ أعني المسار التشريعي الذي يجسّد كثيراً من القيم الاعتبارية للشعب والدولة معاً.
لن يفيد الكلام الآن حول المعايير والاجتهادات التي أفضت إلى أن تكون الانتخابات البرلمانية بتلك الطريقة التي رأيناها؛ ففي ذلك آراء متعددة واختلافات كثيرة، وكذلك من غير المفيد تكرار الحديث عن المعايير التي بموجبها اختيرت الهيئات الناخبة وكذلك المرشحون؛ فذلك أمر من العسير إيجاد تقاطعات جامعة حوله. ولكن الأهم من ذلك كله هو التفكير والعمل معاً على كيفية مواجهة هذا الاستحقاق ليكون ذا جدوى، ليس من الناحية الشكلية فحسب، بل من حيث تداعياته العملية على حياة المواطنين أيضاً.
مسألة إيجاد برلمان جديد بعد سقوط نظام الأسد تبدو مسألة مركبة؛ يكمن في جانبها الأول نشوء فهم جديد لطبيعة عمل البرلمان وكذلك لطبيعة المهمة الموكلة إلى أعضائه. نحن أمام إرث ممتلئ بالموبقات القانونية والأخلاقية التي رسّخها النظام الأسدي، انطلاقاً من الوظيفة الشكلية لمجلس الشعب الذي كان فاقداً لصلاحياته الجوهرية ومجرّداً من أي فاعلية حقيقية. فقد أريد لهذا الكيان التشريعي من جانب السلطة الحاكمة البائدة أن يكون كياناً شكلياً تنحصر مهمته بإعادة إنتاج خطاب السلطة والتصديق على سلوكها عبر تبريرات لا يختارها الأعضاء بل يتلقَّونها تلقيناً، وعليهم تلاوتها كما يشاء هرم السلطة. فمجلس الشعب – وفقاً للعهد السالف – ليس معنيّاً بأي جانب تشريعي أو خدمي أو سياسي؛ بل هو جوقة رديفة للكيانات الداعمة للسلطة، غير معنية بمحاسبتها أو مراقبة عمل الحكومة أو إقرار القوانين والمراسيم ذات الطابع المصيري للشعب.
لعلّ تراكم هذا الإرث السيئ بات يوجب على أعضاء البرلمان الجدد في سوريا الجديدة التزوّد بوعي جديد من شأنه القطيعة التامة مع الوعي السلطوي السابق، والانطلاق من مفاهيم جديدة قرينة بالكشوفات الثقافية والفكرية للثورة السورية.
ولعلّ هذا الأمر انعكس على الطريقة أو المعايير التي يتم بها اختيار الأعضاء. ولا حاجة للحديث عن سيرورة المسرحيات الانتخابية؛ إذ إن تكرارها على مدى ما يقارب ستين عاماً كان كافياً ليعلم السوريون جميعاً أن المسألة الأهم لأي نائب هي وصوله أو حيازته العضوية فحسب، سواء من خلال التزكية الأمنية أو الحزبية أو النفوذ المالي الذي أتاح للكثيرين شراء العضوية وفقاً لتسعيرة يحدّدها النافذون في السلطة. وبعد ذلك لا يبقى ما يؤرق النائب سوى الحصول على الامتيازات واستغلال النفوذ من أجل السمسرة والنصب والاحتيال على المواطنين. فضلاً عن أن معايير الكفاءة والمهنية لم تكن في وارد أرباب السلطة، وإنما معايير الولاء والمبالغة في الاستزلام. ولا ينسى السوريون الصورة النمطية لأعضاء مجلس الشعب التي اختزلها أحدهم بمخاطبة بشار الأسد قائلاً: “سورية قليلة عليك يا سيادة الرئيس، أنت لازم تحكم العالم”.
ولعلّ تراكم هذا الإرث السيئ بات يوجب على أعضاء البرلمان الجدد في سوريا الجديدة التزوّد بوعي جديد من شأنه القطيعة التامة مع الوعي السلطوي السابق، والانطلاق من مفاهيم جديدة قرينة بالكشوفات الثقافية والفكرية للثورة السورية. فما ينبغي أن يعيه النائب الجديد أن وجوده في البرلمان ليس تكريماً لشخصه ينتهي بمجرد وصوله إلى قبة البرلمان، بل هو تكليف ينطوي على استحقاقات عديدة؛ لعلّ أهمها أن البرلمان ليس كياناً رديفاً للسلطة، وأن علاقة النائب بالسلطة أو القائد ليست علاقة ولاء أو حب أو كره، بل هي علاقة تنظمها قوانين وضوابط دستورية. وبناء عليه يقف النائب دوماً موقف المراقب والناقد والموجّه للسلطة، لا موقفَ المحابي والمتملّق. فالسلطة لا يحصّنها سوى التزامها بالدستور والقوانين، والقائد ليس مالكاً للبلاد بل خادمٌ لها، ونجاح السلطة في الالتزام بمهامها وتحقيقها لأي منجز هو واجبها الذي وجدت لأجله، وليس مِنّةً أو إنجازاً يوجب على النواب أو المواطنين التقديس وتقديم آيات الشكر.
أما الجانب الثاني من المسألة فيكمن في ما يحمله الأعضاء الجدد من أفكار ومشاريع يرونها ضرورية في المرحلة الراهنة. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى ظاهرة لا تزال تستمد مضامينها من ثقافة بائدة، كاللجوء إلى الاستثمار بالشعارات والاختباء خلف وعود غير واقعية لا يراد منها سوى جانبها الدعائي غير القابل للتحقيق. ومن المؤسف أن يكون معظم من ترشّحوا إلى البرلمان الجديد، بمن فيهم من فازوا بالعضوية، قد جعلوا من برامجهم “مانشيتات” تكاد تكون متطابقة فيما بينها؛ فالجميع يعد بتحقيق العدالة الانتقالية وتحقيق السلم الأهلي والارتقاء بالواقع التعليمي والصحي وازدهار الحريات والتعددية السياسية وتعزيز العدل والمساواة وسيادة القانون، وإلى ما هنالك من شعارات تضخها وسائل الإعلام منذ عام 2011 حتى الآن، وذلك دون النظر إلى الواقع الراهن ومحاولة الوقوف عند الحاجات الأولية للمواطن السوري العادي الذي لا يرى أن أزمته وأولوياته تنحصر فيما ذُكر من شعارات، بل في قضايا حياتية ربما يراها السادة النواب الجدد أقل مستوىً من تطلعاتهم ذات السقوف العالية.
ما ينتظره السوريون من نوابهم الجدد هو القليل من التواضع، والاستعداد للتخلي عن ثقافة التلطي خلف الشعارات الكبيرة الرنانة.
ومع التأكيد على أن مجلس الشعب ليس كياناً تنفيذياً أو خدمياً، إلا أن العمل على إيجاد تشريعات تمسّ أولويات المواطنين وتلامس معاناتهم اليومية لهو أمر في غاية الأهمية. وبناء عليه، أجد أن المطالبة والعمل على تفعيل مجالس المدن والبلديات من أجل ترحيل القمامة وتنظيف المدن والبلدات والقرى من الأكوام الهائلة والمخيفة من الأوساخ، أهم وأشد أولوية من التغني بالشعارات المشار إليها. فالمطالبة بتطوير النظام الصحي وبناء المستشفيات أمر مهم جداً، ولكن إزالة المخلفات التي تهدد بانتشار أمراض مخيفة ومرعبة أكثر أهمية. وليس بعيداً عن ذلك مسألة شيوع الأمان والتصدي لحالات السطو والسرقة والاغتصاب الناتجة عن تفلت السلاح وانتشاره بكثرة خارج نطاق القانون؛ فافتقاد المواطن للأمان وانتشار حالات الانتقام والقتل في وضح النهار وشيوع الفوضى الأمنية لا يمكن أن تكون أساساً لقيام سلم أهلي كما تسطره البرامج الانتخابية، إلا إذا كان النواب يجدون تطلعاتهم أكبر من معاناة المواطنين، ويرون أن الشأن الحياتي للمواطن لا يوازي طموحاتهم الكبيرة؛ فتلك مشكلة بل معضلة كبيرة.
فما ينتظره السوريون من نوابهم الجدد هو القليل من التواضع، والاستعداد للتخلي عن ثقافة التلطي خلف الشعارات الكبيرة الرنانة. وليعلم السادة النواب أن معظم السوريين لن ينخدعوا أو يتوهّموا بقدرة هؤلاء النواب، في الظرف الراهن وضمن المعطيات الحالية، على أن يكونوا صانعي قرار أو أصحاب قدرة على تحقيق برامجهم الدعائية التي منها ما تعجز عن تنفيذه الحكومات في الدول المستقرة.
دعكم من الشعارات، أيها السادة النواب؛ فلن يطالبكم الشعب بإنجازات كبرى تعجز عن تحقيقها دول. وإن شئتم النجاح في مهامكم، فعليكم الاقتراب من الجمهور العام وملامسة أولوياته الحياتية. إن الصورة التقليدية أو النمطية للنائب، التي يمكن اختزالها بالاستعراض والجلوس في المقاهي والمطاعم الفارهة وحيازة السيارات واستغلال النفوذ، باتت صورة مقززة، نتمنى ألا نراها مرة أخرى في سوريا الجديدة.
المصدر: تلفزيون سوريا