عندما يناهض رئيس البرلمان التونسي الحوارَ الوطني

سالم لبيض

تصريح رئيس البرلمان التونسي إبراهيم بودربالة، يوم 22 يناير/ كانون الثاني الحالي، بشأن الحوار الوطني، شكّل مادّةً دسمةً في وسائل الإعلام التونسية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وموضوعاً للنقاش بين الفاعلين السياسيين الموالين لسلطة الرئيس قيس سعيّد، والمعارضين لها.

جاء في ذلك التصريح “كلّ الدعوات التي تنادي بالحوار هي في الحقيقة ترمي للانقضاض على ما وقع إنجازه، وعلى التقدّم الذي حصل للشعب التونسي من خلال إقامة مؤسّسات تعمل في ظروف طيّبة، وحقّقت الطمأنينة والأمل للشعب في مستقبل أفضل”. وأضاف “الإجراءات التي تمّت منذ 25 جويلية (يوليو)، كانت متناسقة وكانت هناك خريطة طريق واستشارة شعبية، وحوار وطني مفتوح للعديد من الجهات، وإن من أقصى نفسه هو الذي لم يشارك فيه، ثمّ قدّم مشروع الدستور، وتمت المصادقة عليه من خلال استفتاء بصورة شفّافة وقانونية، وحاز ثقة جزء كبير من الشعب التونسي”. وجاءت هذه التصريحات ردّاً على بيان أصدره 11 نائباً، من كُتل برلمانية مختلفة، تضمّن دعوةً صريحةً إلى ضرورة إجراء حوار وطني بهدف “تكريس استقلالية القضاء، وإطلاق سراح المُتتبَعين في قضايا الرأي من نقابيين وإعلاميين ومدوّنين ونشطاء، والتسريع في الزمن القضائي، واختزاله في قضايا السياسيين المنشورة في إطار الاحترام الكامل لمبدأ قرينة البراءة، وتنقيح النصوص القانونية الزجرية أو إلغاء الأجزاء الزجرية منها، وتنقية التشريعات من كلّ ما من شأنه أن يشرّع لتسليط عقوبات سجنية في مجالات خلافية فكرية وسياسية على غرار الفصل 24 من المرسوم 54”.

برّر النواب إصدار بيانهم، الذي قُرِئت أجزاء منه في إحدى الجلسات العامّة للبرلمان من النائب ثابت العابد، قبل أن يقاطعه رئيس المجلس ويقطع عليه المِصْدَح، بوجود تغيّرات متسارعة دولياً وإقليمياً، تتضمّن مؤشّرات خطيرة من شأنها المسّ بالمصالح الوطنية والقومية. وأضاف البيان “من الواضح أن حجم المخاطر التي تهدّد البلاد في ظلّ عودة الأجهزة المخابراتية الدولية لتفعيل الإرهاب وسيلةً لاختراق الأمن الوطني، يقتضي رؤيةً سياسيةً مسؤولةً”، ما يستوجب “العمل لتعزيز الجبهة الداخلية وتمتينها”، من طريق “مدخل سياسي وحوار عقلاني جدّي”.

مغالطاتٌ كثيرةٌ وتمويه، وكأن رئيس البرلمان يعطي لنفسه الشرعية بالخوض في مسألة الحوار الوطني، وهي مسألة حيوية تسعى إليها أغلب القوى السياسية والمدنية التونسية

وعلى عكس ما ذهب إليه النواب من اعتراف بالأزمة التي تعيشها تونس، وأن هذه الأزمة لا يمكن معالجتها إلا بوحدة وطنية تنبثق من حوار وطني جدّي ينهي حالة الانقسام الحادّة، وهي حالة تعيشها تونس منذ 25 يوليو/ تمّوز 2021، وقد تفاقمت بعد ذلك التاريخ، ومن مظاهرها سجن السياسيين والمدوّنين والإعلاميين ورجال الأعمال وقادة الأحزاب، والتنكيل بهم، والتضييق على الحرّيات العامّة والفردية، وغياب التداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخابات الديمقراطية النزيهة والشفّافة، المُجمَع على نتائجها وطنياً ودولياً… على عكس ذلك، يعتقد رئيس البرلمان أن “تونس السعيّدية” بنتْ مؤسّساتها وحقّقت الطمأنينة للشعب.

وفُهِم من تصريح رئيس البرلمان مواصلة التزلّف للرئيس سعيّد واستمراره، وهو تزلّف وتقرّب انطلق بعد انقلاب 25 يوليو (2021) الرئاسي، وبلغ أوجه منذ تولّى بودربالة رئاسة البرلمان في مارس/ آذار 2023. فهو يعتقد أن ما يصرّح به يقدّم خدمةً للرئيس سعيّد، ويقوي بنيان نظامه، ويصلّب أساساته وأركانه. والحال أن ما يدلي به سعيّد من تصريحات، في مقابلاته رئيس حكومته وأعضاءها مجتمعين ومنفردين، وفي هامش زيارات غير مُعلَنة تنشرها صفحة الرئاسة التونسية في “فيسبوك” دورياً، يتضمّن اعترافاً بهشاشة المؤسّسات الجديدة المنبثقة من دستور 2022، وفشل بعضها، وعدم القدرة على ترسيخها واستمراريتها، وإن استمرّت فهي عاجزة عن القيام بالأدوار المنوطة بعهدتها.

كان على رئيس البرلمان أن ينافح ويدافع بشراسة عن الحوار الوطني، حتى وإن أفضى إلى تحقيق هدف واحد من بين أهدافه المتعدّدة والنبيلة، هو إطلاق سراح زملائه المحامين

في تصريح رئيس البرلمان مغالطاتٌ كثيرةٌ وتمويه، كأنه يعطي لنفسه الشرعية بالخوض في مسألة الحوار الوطني، وهي مسألة حيوية تسعى إليها أغلب القوى السياسية والمدنية التونسية، وتتعلّق بمستقبل تونس والتونسيين أجمعين، ودرء الأخطار المحدقة ببلادهم، في وضع عامّ محلّي ودولي يتميّز بالتبدّلات السريعة والتغيّرات المتواترة وقلّة الاستقرار، والصراعات والحروب وبؤر التوتّر، التي تنشأ من دون سابق إنذار، بينما يفتقد صاحب الوظيفة التشريعية تفويضَ النخب السياسية التونسية وإجماعَها، حتى من داخل منظومة “25 يوليو”، المشروعية الشعبية والإرادة الحقيقية الممثّلة لها، فهو لم يفز إلا بـ 3700 صوت، في انتخابات شارك فيها 10% فقط من الجسم الانتخابي التونسي (9,136,502 ناخب).

المغالطة الأخرى، وهي ترتقي إلى مستوى تزييف الحقائق، قول رئيس البرلمان بوجود “حوار وطني (سنة 2022) مفتوح لجهات عديدة، ومن أقصى نفسه هو الذي لم يشارك فيه، ثمّ قُدّم مشروع الدستور وصودق عليه من خلال استفتاء”. والحقيقة أن ذلك الحوار كان انتقائياً، اقتصر الحضور في جلساته، التي دارت في دار الضيافة بقرطاج، على فسطاط أنصار سلطة 25 يوليو، والرئيس قيس سعيّد، ولم تدعَ له المعارضات المختلفة الدستورية والإسلامية، وطيف من المعارضات اليسارية والليبرالية، وقاطعه الاتحاد العام التونسي للشغل، وعمداء كلّيات القانون، وكان مقياس الدعوات للمشاركة فيه مقدار الولاء للمنظومة الجديدة، والدفاع عنها، وتسويقها، والاعتراف بشرعيتها.

ولكن المغالطة الكبرى في ما آتاه رئيس البرلمان من أقوال، ما لا يغتفر وينزع عن الرجل كلّ مصداقية، هو ترويج أن مشروع الدستور الذي انتهى إليه حوار 2022، بإشراف أستاذ القانون الدستوري، والعميد السابق في كلية الحقوق بتونس الصادق بلعيد، هو نفسه المشروع الذي عُرِض على الاستفتاء في التاريخ المذكور. والحقيقة أن سعيّد ألقى بالوثيقة المنبثقة عن الحوار الوطني، والمعروفة بدستور بلعيد، بسلّة المهملات، وقدّم للاستفتاء دستوراً في آخر خطّة بيمينه، ويُعتمد اليوم دستوراً للجمهورية التونسية، واضعاً الحوار الوطني الذي يتحدّث عنه بودربالة والوثيقة المنبثقة منه في خانة الأنشطة الصورية، التي لا طائل من ورائها سوى التسويق السياسي لما حدث يوم 25 يوليو/ تموز 2021، والبيع في أسواق الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي، لكسب شرعية مهتزّة محلّياً ودولياً.

لا يزال أمام رئيس البرلمان التونسي فرصةَ أن يجعل مجلس نواب الشعب داراً للشعب توحّده، وتعترف باختلافاته

ديونطولوجياً (الواجب أخلاقياً)، كان على رئيس البرلمان أن ينافح ويدافع بشراسة عن الحوار الوطني، حتى وإن أفضى إلى تحقيق هدف واحد من بين أهدافه المتعدّدة والنبيلة، هو إطلاق سراح زملائه المحامين المحالين في قضايا تتعلّق بأنشطتهم السياسية والإعلامية، وتمكينهم من حرّيتهم، فمنهم من كان له الفضل، وخاصّة الإسلاميين والدستوريين، في الفوز بخطّة عميد المحامين في تونس سنة 2019، بعد عشرات السنين من المحاولة، أمام منافسه بوبكر بالثابت مرشّح العروبيين واليساريين، وهي الخطّة التي ستفتح له أبواب تأييد مسار 25 يوليو (2021)، والوصول إلى البرلمان وتولي رئاسته. ويبدو أن بودربالة لا ينتبه، وهو يمرّ يومياً إلى مكتبه، أمام صور رؤساء البرلمان التونسي السابقين، أن المواقف العظيمة والمشرّفة والدفاع عن القضايا الوطنية، ومن بينها قضية الديمقراطية والتعدد، ونبذ الإقصاء والاعتراف بالاختلاف واحترامه، هي التي تفرّق بينهم في أعين الآخرين، فتُعلي من شأن هذا وتحطّ من ذاك، رغم أن الوظيفة هي نفسها لكن الأدوار تختلف.

لا يزال أمام رئيس البرلمان التونسي فرصةً في أن يجعل من مجلس نواب الشعب داراً للشعب توحّده، وتعترف باتجاهاته واختلافاته، تؤويه كلمّا يحتاجها ويُنصت فيها لآلامه وتدافع عن مصالحه وآماله، وتدير حواراته المتعلّقة بقضاياه الوطنية الكُبرى والمتجدّدة، بدلاً من أن يكون فرعاً من فروع السلطة السياسية والتنفيذية، يقرّ سياستها المالية الجبائية والتفقيرية، وظيفته المصادقة على القروض، وإغراق البلاد في المديونية، والإطناب في تمرير القوانين الزجرية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى