عندما انتهيت من قراءة هذه الرواية “المسيح الأندلسيّ”، للروائي الفلسطينيّ السوريّ تيسير خلف، تساءلت عن حجم الكتب والمخطوطات التي عاد إليها الكاتب الروائيّ الفلسطينيّ/ السوريّ (والمقيم في تركيا حاليًّا) تيسير خلف لكي “يطبخ” هذه الرواية الملحمية، بشخصيّة رئيسة هي “عيسى بن محمد”، وعشرات الشخصيّات التاريخية والمتخيّلة؟ الرواية التي تستعيد حضارات وأممًا، تستعيد الأندلس وإسبانيا والدولة العثمانية وأوروبا متمثلة في الفاتيكان، تستعيد الكنائس ومحاكم التفتيش، أو ما كان الإسبان يطلقون عليه (دار الأمان)، وضحاياها من المسلمين المُكرَهين على “التنصّر”، وعدت إلى مطالع الرواية لأجد الإجابة في “إشارة” من المؤلّف، يقول فيها:
“كتبتُ هذه الرواية؛ بالاعتماد على عدد كبير من المخطوطات المنسوخة بخطوط عربية مختلفة: أندلسية، ومغربية، ومشرقية، وأيضًا بأعجمية ما بعد سقوط غَرْنَاطَة التي يسمّونها “الخميادو”، وهي لغة قَشْتَالِيَّة بحروف عربية أندلسية. واستفدتُ أيضًا من رسائل أندلسيّي القرن السابع عشر، المكتوبة بالقَشْتَالِيَّة، والتي نُقلَت في غالبيّتها إلى العربية المعاصرة بسَويَّات مختلفة. وأَلزَمَنِي ورود أسماء بعض أبطال الرواية الحقيقيّة، بشكل عَرَضيّ، في مصادر مختلفة، بالانهماك في تتبّع مطبوعات القرن السابع عشر، على ما فيها من اختلافات كبيرة، سواء في رسم الحروف اللاتينية، أو تغيّر دلالات المصطلحات، وعقد مقارنات بينها وبين المخطوطات العربية، للوقوف على تفاصيل، قد تبدو غير ذات قيمة للقارئ العادي، ولكنها أساسية بالنسبة إلى الرواية”.
وباستثناء رواية الروائي الباكستانيّ طارق علي “في ظلال الرمّان” (ترجمة الدكتور إبراهيم السّعافين)، ورواية للكاتب السوري محمّد برهان (المقيم في دولة الإمارات)، بعنوان “بيت الكراهية” (دار فضاءات- عمّان 2016)، لم يسبق أن قرأت روايات عن الأندلس وعوالمها، قبل السقوط وبعده، لذا تأتي رواية تيسير خلف لتكمل جانبًا ناقصًا في السرديّة العربية الإسلامية عن هذا العالم الغائب عن الرواية العربية. رواية تتسم بالبراعة في توظيف المادة التاريخية والتعريف بالمؤرخين والفقهاء من ذلك الزمن، وتستعيد عناوين وأسماء مثل ابن رشد، وابن عربي، والغزالي، وغيرهم.
رواية ملحميّة
في روايته هذه (دار المتوسط، ميلانو- إيطاليا، 360 صفحة)، يأخذنا تيسير خلف مع أسفار عيسى بن محمّد الأندلسي، في رحلة بحثه عن قاتل أمّه، ضمن حملات محاكم التفتيش التي تلت سقوط الأندلس، وعمليات “تنصير” المسلمين، التي تضمّنت سجونًا وإعدامات بوسائل وحشية، الأمر الذي نجده في الوثائق (الملفّات) التي عثر عليها عيسى في أحد الأقبية، حول اعتقال والدته ماريّا وكيفيّة تعذيبها ورفضها الاعتراف بهويّتها العربية الإسلامية، حتى الموت.
يصف الكاتب المشهد في فصل بعنوان “قاتل بثياب راهب”، حيث دخل عيسى إلى حجرة خاله بابلو باييخو، فأشار إلى باب كبير، عليه لوحة كُتب عليها “أرشيدياكونو”، أي رئيس الشمامسة… كان الجلّادون يربطون ذراعَي المتّهم من الخلف، ويرفعونه بالسلاسل إلى الأعلى، ويبقونه معلّقًا حتّى يعترف، أو يموت… “توقّفتُ أمام العجلة الدوّارة مليَّا وأنا أتخيّل جسد أمّي موثقًا بها، وظهرها محنيًا كقوس نشَّاب، والجاّد يضغط بقوّة. أستطيع أن أسمع بوضوح صوت تكسّر عظامها، وتمزُّق لحم صدرها، وأنينها الضعيف المكتوم بعد أن خارت قواها…”.
هذا فضلًا عن اختفاء والده لسنوات طويلة، قبل أن يكتشف مكانه، في نهايات الرواية، ويزوره في “دكّان العطّار” في القاهرة. ويعرف أنه هو ألونسو دي لونا ـ أبو عيسى محمّد بن أحمد الحبيس البَيَاسِّي. وهو من بين الشخصيّات التي يتكرّر حضورها في أحاديث وهواجس الروائي، ومحاولة التعرّف على من تكون شخصية محمّد بن أبي العاص، حيث يظل البطل عيسى بن محمد يلاحق هذه الشخصية ويحاول التعرّف على سرّها، ثم يكتشف أن الشخص “الذي ما فتئتُ أُسيء به الظنون، هو والدي؟!”.
“الرواية تتسم بالبراعة في توظيف المادة التاريخية والتعريف بالمؤرخين والفقهاء من ذلك الزمن، وتستعيد عناوين وأسماء مثل ابن رشد، وابن عربي، والغزالي، وغيرهم”
وبعد خمس روايات غالبيّتها ذات طابع تاريخيّ ـ وثائقي، مثل “مذبحة الفلاسفة” (2016)، وأبحاث تاريخيّة وثائقيّة أيضًا، مثل كتابه “وثائق الفتح الصّلاحيّ” (2023)، فإنّ هذه الرواية، ذات الصبغة التاريخية الوثائقية، ولكن الفانتازيّة في الوقت نفسه، تأتي لتغطّي مرحلة حسّاسة في تاريخ العرب والمسلمين، هو تاريخ ما بعد الأندلس، بما في هذا التاريخ من مؤامرات وملاحقات ومحاكمات بلغت حدود “التطهير” العرقيّ والدينيّ لكل من هو عربيّ مسلم، وفرار العرب المسلمين إلى جهات شتّى، منها المغرب العربيّ وتركيا وسواها، منهم من هرب باسمه ودينه وعروبته، ومنهم من “تنصّر” ظاهرًا، وحمل اسمًا مسيحيًّا إلى جانب اسمه العربي الذي يبقى سريًّا.
وبعيدًا عن متاهة الأمكنة والأسماء التي تأخذنا الرواية فيها، بحنكة روائيّة وفنيّة عالية، ولغة تنتمي إلى عصر الرواية وتاريخها، سنكتفي في هذه القراءة بما يجدر الوقوف عليه من معالم الحرب التي تدور بين المسلمين العرب من جهة، وأعدائهم النصارى من جهة أخرى. ونتوقّف تحديدًا عند شخصية عيسى بن محمد الأندلسيّ المتخفّي باسم نصرانيّ هو خوسيو، ومغامراته للوصول إلى عدوّه اللدود خيرونيمو راميريز، وهو أحد القضاة الذين حكموا على ماريّا والدة عيسى بالسجن حتى الموت. ويظلّ يلاحقه حتى نراه، في نهاية الرواية، يلتقيه في ملجئه السريّ، ويسلّمه للسلطات العثمانيّة التي تطلب رأسه، عبر خطّة مرسومة بذكاء.
مغامرات وعلاقات
في حياة “البطل” عيسى بن محمّد كثير من الأسفار والمغامرات والعلاقات، لكنّنا سنتوقّف على الأهمّ منها، خصوصًا علاقته بالمسلمين الهاربين من “ديار الكفر” الإسبانية إلى “ديار الإسلام”، المغاربية أو العثمانيّة، وما تتضمنّه هذه الرحلة والعلاقة من صراعات بين الجماعات الإسلامية، وما بينها من صراعات وخلافات تبلغ حدود التخوين بالتعاون مع العدوّ، وحدّ الفتوى بالقتل. ثمّ علاقته بالمخطوطات العربية الإسلاميّة “المنهوبة”، ومخازنها في الأديرة، واشتغاله في تصنيفها وترجمة بعضها. وعلاقته بخاله “النصرانيّ” المتمسّك بنصرانيّته، والعلاقة الأهمّ هي علاقته مع الفتاة “فيروزة”، التي وصلت حدّ الزواج منها، والإيقاع بعدوّه اللدود من خلالها: “كانت قد نضجت في رأسي خطّة الوصول إلى دُون خيرونيمو راميريز. كانت الخطّة أن أتوجّه إلى دَيْر الرهبان البندكتيِّيْن، بعد أن أحلق وجهي، فلِساني الأصلي هو القَطَلُونِيّ بحكم ولادتي في بلاد بَرْبَنصَة، وأُجيد فَرَانْصَاوِيَّة برَيِش بحكم الإقامة في الدَّيْر، وأعرف لسان اللاطين، وشيئًا من القَشْتَاليِّة، والإيطاليانية، والعربية بحكم عملي في مكتبة الدَّيْر مع كثيرين، وقد لاحظ الأب راميرو علي إتقاني لهذه الألسن، وأظنّ أن هذا ما شجّعه على دعوتي للمهمّة”.
عناوين كثيرة تحملها الرواية، تتمركز كلّها حول شخصيّة عيسى بن محمد الأندلسي، هذا الذي يخوض مغامرات ذكيّة يقدّمها الروائيّ بلغات عدة، عربية وقشتاليّة، وغيرها من اللغات “اللاطينية”، ويكشف عن كثير من المعارف والفقه والعلوم التي اشتملت عليها حضارة العرب في الأندلس، حيث المخطوطات العلمية في الطب والفلك والفيزياء، وغيرها من الفقه والتفاسير، وذلك كله تقدمه الرواية من خلال شخصيّات كثيرة، وبأسلوب روائي لا تخفى مصادره ومرجعيّاته، إذ لا يلبث الكاتب أن يثبّتها في نهاية الرواية. لكنها تبقى عصيّة على الحصر.
في رحلته إلى فرنسا (فرانصه) كما يكتبها حسب لغة ذلك العصر، يحكي عيسى بن محمد عن اختطافه واحتجازه في أحد الأديرة لأربع سنوات، ليقوم بتصنيف المخطوطات، ويضعنا الروائي/ السارد في أجواء ذلك الدير الغامض، الرهبان ومراتبهم، ومعالم المكان وأقبيته وأسراره، ومسيرة العمل مع المخطوطات والمعارف التي يحصل عليها، وتفاصيل يوميّاته في هذا المكان/ الكنز، ومشاعر الانتماء لهذا التاريخ، ممزوجة بمشاعر الغربة والاغتراب عن المكان. وهنا نتوقّف أمام ملحوظة هامّة في عمله، إذ يلحظ أن من هيمنوا على هذه المخطوطات حريصون على أن يُبقوا على كُتُب العلوم الدنيوية، كالطبّ، والجبر، والهندسة، وعلم الحِيَل، والبصريات، من جانب، وأن يتخلّصوا من كُتُب الدِّيْن والأدب واللغة والفلسفة… من الجانب المقابل الذي يظهر استخفافًا بمضامين هذه الكتب الأخيرة.
ولا يغيب عن الكاتب أن يلتقط ملامح مهمّة من الحضارة الأندلسية عامّة، ومن ذلك المطبخ الأندلسي المتنوّع والمتعدّد الأصناف الشهية، فمن خلال خالة (البطل) عيسى محمد المدعوّة إيزابيلا، يختار عيسى أطيب الأطعمة وأشهاها، ولا يكتفي بتناولها والتلذّذ بها عند خالته، بل يسجّل أوصافها وتفاصيلها ليقوم بطهيها. وهنا نقف على تعمّق الكاتب بتفاصيل الحضارة الأندلسية، والتأثيرات العربية، وخصوصًا السورية ـ الشاميّة في هذه الحضارة بكل تفاصيلها. وهنا أيضًا يمكن للقارئ أن يلمس ظلالًا من شخصية المؤلّف الفلسطينيّ/ السوريّ، فحضوره واضح في ظلال من ملامح شخصية (البطل) ما بين الأندلس وتركيا… خصوصًا بعد أن انتقل الكاتب ليعيش في تركيا.
المصدر: الضفة الثالثة / العربي الجديد
رواية “المسيح الأندلسيّ” للروائي الفلسطينيّ السوريّ “تيسير خلف” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي للكاتب “عمر شبانة” الرواية بشخصيّة رئيسة “عيسى بن محمد”، تستعيد حضارات وأممًا،الأندلس وإسبانيا والدولة العثمانية وأوروبا متمثلة في الفاتيكان، والكنائس ومحاكم التفتيش، وضحاياها من المسلمين المُكرَهين على “التنصّر” .