هذا أول عمل أقرأه للكاتب حسام الدين الحزوري، وهو أيضا ناشط في الثورة السورية، ومن مدينة حمص، من حي البياضة الذي ولد وعاش فيه عبد الباسط الساروت منشد الثورة وأحد رموزها المخلصين.
يتحدث الكتاب عن عبد الباسط الساروت من خلال تواصل الكاتب مع الكثيرين من رفاق الساروت، كذلك مع من تبقى من عائلته التي استشهد اغلبها، متتبعا خطّا زمنيا منذ نشأته في حي البياضة الحمصي حتى استشهاده في عملية اغتيال في ميدان صراعه مع النظام ودفن في مدينة الدانا في الشمال السوري.
لم يكن هناك ما يلفت النظر والتميز في حياة ونشأة عبد الباسط الساروت، فهو من اسرة حمصية فقيرة له الكثير من الاخوة والاخوات، ولد ونشأ في حي البياضة الحمصي، لم يكمل دراسته العلمية بعد نهاية المرحلة المتوسطة، انتقل بعدها ليعمل ويعيل نفسه ويساعد في إعالة عائلته الكبيرة. كان له ولع في لعبة كرة القدم كما كثير من الشبان السوريين، اكتشف موهبته كحارس مرمى وبدأ يتدرج باللعب مع الفرق حتى أصبح حارس مرمى نادي الكرامة الحمصي، وأصبح بعد ذلك حارس مرمى منتخب شباب سورية. كان للربيع العربي وما فعله اطفال درعا في أواسط آذار عام ٢٠١١م، من تحدي النظام الظالم الاستبدادي، تأثيرا كبيرا عليه، فوجد نفسه منغمسا بفعاليات الثورة السورية منذ بداياتها ايام التظاهر السلمي في حي البياضة ثم في كل حمص وفي كل الأماكن التي تنقل فيها في مسيرته الثورية، حيث اكتشف موهبة اخرى له وهي الانشاد والغناء للثورة، متعاونا مع ناشطين آخرين في تأليف الكلمات وانشادها في ساحات الحرية حيث يتواجد، وسطع نجمه وقوي حضوره، بحيث أُطلق عليه لقب حارس الثورة السورية ومطربها المخلص والأصيل أمثال الشهيد القاشوش وآخرين.
لم يكن اندماج الساروت في الثورة السورية منذ اندلاعها غريبا، لقد اكتشف الساروت داخل نفسه، توق شديد لان يكون حرا رافضا للظلم مطالبا بالعدالة والكرامة الانسانية، لم يكن ذلك بحاجة لتنظير وموجّه، أنها نزعة الحرية وقانونها داخل نفسه وروحه، جاءت الثورة واعطتها فرصة للانطلاق والتعبير عن ذاتها وتحولها الى سلوك لحظي منتصرا للثورة حتى استشهاده اغتيالا.
كان الساروت واحدا ممن اعتلى الهامات في مظاهرات البياضة بحمص في البدء مغنيا للثورة، ثم وبعد قرر النظام قتل الثورة وقتل الشعب الثائر، حيث بدأت رحلة العذاب مع السوريين جميعا في مواجهة آلة القتل والاجرام للنظام، فقد بدأ الساروت بالالتحاق في كل المناشط التي أصبحت ضرورية في الثورة السورية، الانتقال للمظاهرات الطيارة، وبداية التسلح لحماية المتظاهرين، ثم التشبث في كل حي على حدى وفي كل مدينة حمص الذي قرر النظام اعدامها بشرا وحجرا لانها اصبحت عاصمة الثورة بامتياز.
كان الساروت في كل المراحل حاضرا وبقوة في مناشط الثوار لمقاومة النظام والعمل لانتصار الثورة مهما كانت الامكانيات ضعيفة وبعد ان تبين ان الثورة السورية ضحية الترك والاهمال والتدخل والاجهاض من قبل كل الأطراف الفاعلة في الواقع السورية. لم يخطر على بال الساروت يوما ان يغادر حيز انتصار انسانيته وأنه امتلك جرأة مواجهة النظام الظالم، بأن يعود ليكون عبدا منتميا للقطيع المجتمعي الذليل في دولة النظام المجرم. لذلك انتقل للعمل المسلح مشكلا مع آخرين فصيل من الجيش الحر في حي البياضة و ممتدا بالتعاون والتآزر مع بقية ثوار حمص وريفها وثوار سورية عموما. لكنه اكتشف مبكرا وقوع الثورة ضحية قلة الخبرة والنضج في الوعي عند الثوار، وأنهم اصبحوا عالة على المانحين لهم؛ المال والسلاح، وهؤلاء لم يكونوا كدول اقليمية او افراد يتعاملون معهم من موقع المنتصر للثورة، بل من موقع المتدخل ليصنع أجندته ومصالحه. انعكس هذا على الثورة بتعدد المانحين وبالتالي اختلاف أجندة الثوار وتفرقهم وصراعهم في كثير من الأحيان. كما بدأ يظهر داخل الثوار تمدد للفكر الجهادي السلفي متمثلا بـ القاعدة والنصرة وداعش. كما تم تجفيف الدعم عن الثوار الوطنيين الديمقراطيين الأحرار لتكبر ظاهرة المتطرفين الإسلاميين ليصل النظام وحلفائه الى مرحلة وصم الثوار بالارهابيين، وصمت العالم عن ذلك وتركه النظام يقوم بتدمير سورية وقتل شعبها وتهجيره.
كان الساروت ورفاقه في كل الوقت في الميدان محاصرا مع رفاقه ومن تبقى من أهل حي البياضة ثم في حمص كلها بعد ذلك، مقاوما للنظام ومحاولا اختراق حصاره الذي امتد لسنين من أجل الحصول على القوت ولقمة العيش للناس الذين حوربوا بلقمتهم. خاض معارك كثيرة نجح في البعض وخسر في البعض الآخر الكثير من الشهداء، لقد تبين أن النظام قد اخترق الكثير من الفصائل الثائرة، واعتمد على الحصار والتجويع، والقصف والقنص والتدمير، وعندما وصل الثوار الى مرحلة انقطاع الدعم والحصار الكامل، دخلوا في مفاوضات الخروج مع من بقي من أهل حمص في الاحياء المحاصرة، لم يكن يمتلك الثوار رؤية استراتيجية لما يجب ان يتصرفوا، كانوا أبناء اللحظة، مشاريع شهادة، البعض قرر الخروج والبعض قرر الصمود، لكنهم يخرجوا جميعا بعد ذلك مرغمين من واقع التشرذم وغياب الدعم وعدم وضوح الرؤية. انتقلوا الى الريف الحمصي، وهناك انتقل معهم كل أمراضهم وصراعاتهم ونزعاتهم المحلية والمناطقية، وصراع المانحين لهم الذي انعكس فيهم نزاعا وفرقة، هذا غير النزعات الذاتية عند اغلب القادة لتزعم مرضي، فحصلت صراعات بينية، أدمت قلوب الناس واضاعت بوصلة الثوار. كان الساروت ومن معه من كتيبته الثائرة في وسط ذلك. بوصلته الصراع مع النظام، ورفض الاقتتال البيني بأي شكل. لكن حتى هو فلم يكن يمتلك امكانية ان يكون رافعة ثورية تجتمع عليها قوى الثورة، فقد كان يمتلك الكثير من الإيمان بعدالة قضيته و استعداده للشهادة لكنه لم يكن يمتلك الرؤية السياسية بحيث تفرز العاملين في الميدان الخبيث من الطيب. لقد أعلن الساروت في مرحلة ولاءه للدولة الاسلامية داعش، وسرعان ما ابتعد عنهم بعدما كشف حقيقتهم. كما حاولت جبهة النصرة أن تأخذه لطرفها، لكنه رفض كل الوقت، وأصبح هدفا لها يجب القبض عليه أو قتله. لقد أصبح الساروت رمزا شعبيا يغطي على كل الآخرين في الميدان، وذلك بسبب حضوره في التظاهر وأنه منشد الثورة، وخاصة داعش والنصرة التي بدأت تتوسع في هيمنتها وسيطرتها في أغلب جغرافيا المناطق المحررة السورية.
تنقل الساروت بين حمص المناطق المحاصرة الى الريف الحمصي وعمل لاستعادة حمص لكنه لم يكن يمتلك امكانية تحقيق ذلك، واضطرّ ان ينتقل من ريف حمص الى الشمال السوري، هروبا من ملاحقة جبهة النصرة له وهدر دمه. لقد استشهد ثلاثة اخوة للساروت وكذلك أقرباء له وكثير من رفاق ثورته من حييّه ومن حمص عموما. كان الحضور الحقيقي للساروت هو في ميدان التظاهر الذي أصبح يتكرر دوما في كل المناطق المحررة واصبح رمزا وطنيا للثورة السورية دون منازع. لم تعد كتيبة الساروت ومن تبقى منها ذات وزن وقوة بعد أن استنزفت، سقط الكثير شهداء منها، وانقطع الدعم عنها، وأصبحت هي والساروت مستهدفة من جبهة النصرة، ومن النظام الذي رصد مبلغا من المال لمن يوصل إليه او يقتله.
انتهت حالة الساروت اما ان يخضع لجبهة النصرة أو يغادر الميدان. لذلك غادر اولا الى الشمال السوري، ومن ثم ترك العمل العسكري وغادر الى تركيا واستقر في اسطنبول ستة أشهر عمل فيها ليؤمن لقمة عيشه، لم يقبل أي عرض قدم له بالمساعدة المالية والمعيشية، لكي لا يحسب على احد وان يشوه نظافة موقفه الثوري. كانت هناك وساطات مع جبهة النصرة لتتوقف عن استهدافه وملاحقته. وكان متألما انه غادر سورية وعمله الثوري، وعندما كفت النصرة عن ملاحقته تمكن من العودة إلى سورية، لأنه كان مصرا على استمرار عمله العسكري الثوري ضد النظام، والتحق بجيش العزّة بقيادة المقدم جميل الصالح، الشهيد لاحقا، الفصيل السوري الذي حافظ على أصالة العمل الثوري ببعده الوطني الثوري التحرري. وأصبح واحدا من ثوارها. واستمر يعتلي هامات المتظاهرين في المناطق المحررة ويكتسب زخما شعبيا. لقد أنقذه هذا الزخم والانتماء له كممثل ورمز للثورة، ليجبر جبهه النصرة على الافراج عنه بعد اعتقاله أربعين يوما، في فترة من الفترات.
لكن لم يدرك الساروت إلى أي مدى أصبح مطلوبا اخراجه من رمزيته وقتله لأنه مثّل كل ماتحتاجه الثورة السورية امام اهلها وناسها. لقد أصبح مطلوبا قتله من النظام وجبهة النصرة وكل الأطراف الفاعلة في سورية. لذلك حاولوا اغتياله أكثر من مرة. وفي آخرها كان في عام ٢٠١٩م حيث استهدفته قذيفة بترت قدمه وجرح واسعف الى مشافي المناطق المحررة ثم إلى تركيا. لكنه توفي هناك متأثرا بجراحه والنزف الشديد الذي أصابه.
لقد استشهد الساروت مطرب الثورة وحارسها ورمزها الوطني الحر الشريف. لقد لقي استشهاده صدى كبيرا وخرجت جموع كثيرة للسوريين في الداخل وفي مناطق الاغتراب تودع ابنها البار وحارسها الأمين. ودفن في مدينة الدانا السورية.
في تحليل الكتاب نقول:
- إن سيرة عبد الباسط الساروت
تختصر بشكل مركّز قصة المواطن السوري العادي الذي يمثل أغلبية الشعب الذي وجد بالثورة استجابة لنزعته الانسانية للحرية والكرامة ودعوة لمواجهة جميع أنواع المظلوميات التي يمارسها النظام وعصابته ضد الشعب المقموع المستغل الضحية. وما آل إليه واقع حركة الناس في التظاهر كتعبير اولي عن مواجهة هذه المظلومية وكسر قيد العبودية، وانتقال الناس الى الساحات بالملايين مطالبين بإسقاط النظام وبناء دولة الحرية والعدالة والديمقراطية، وما فعله النظام في مواجهة الشعب الذي حوله لضحية كل الوقت منفذا شعاره “الأسد أو نحرق البلد”, وبالفعل حرق البلد وسقط الشهداء الذين وصلوا الى ما يتجاوز المليون ومثلهم مصابين ومعاقين ومعتقلين، وأكثر من نصف الشعب السوري مشرد داخلا وخارجا واكثر من نصف سورية مدمرا. هذا غير الاحتلالات الامريكية والروسية والايرانية و المرتزقة الطائفيين حزب الله كذلك الانفصاليين الأكراد حزب العمال الكردستاني ال ب ك ك وممثله في سورية ال ب ي د. لقد ناضل الساروت ايام التظاهر والتحق بالجيش الحر يقاتل النظام واستمر بالتظاهر استشهد اخوته وكثيرا من اصدقائه اصبح ضحية ككل الثوار والثورة لأجندات الغرب والدول الداعمة وتولدت الفصائل المتصارعة وتولدت القاعدة وداعش والنصرة، وعمل الجميع على قتل الثورة وإلغاء أي نتائج ايجابية لها.
- كان الساروت نموذجا، ابن الثورة
والشعب لم ينخدع بالمتغيرات وان تورط عاد الى الصواب لذلك كان مستهدفا أن يُقتل ككل الناشطين الذين استمروا مخلصين للشعب وللثورة.
- نموذج الساروت هو رمز للثورة
والثوار ولذلك وضعه الشعب في موقع لم يصله له غيره سوى الشهداء.
- ختاما لم يكن الساروت قائدا تاريخيا
ولا منظّرا، لكنه كان رمزا شعبيا عن أصالة وانتماء الناس العاديين الذين انتموا الى إنسانيتهم دون ادعاء أو تزييف أو تزيين. انتصروا لكرامتهم وحريتهم وحقهم بالعيش في مجتمع العدالة وبناء الحياة الأفضل. هذا الشعب الذي دفع الثمن الاغلى من حياة ابنائه الشهداء او المصابين والمعاقين والمشردين في أقطاب الدنيا. الذين أذنبوا حين انتصروا لأجل إنسانيتهم وقاتلوا لها و لأجلها حتى النهاية…انه الساروت أحد رموز الشعب السوري العظيم.