استراتيجية ترامب للأمن القومي ونظام دولي مضطرب

معتز الفجيري

تجسّد وثيقة الاستراتيجية الأميركية للأمن القومي، الصادرة نهاية الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، رؤية إدارة ترامب لدور الولايات المتحدة في النظام العالمي، والذي يتمثل في الانتقال من نهج قيادة العالم أو إدارة النظام العالمي سواء من خلال الهيمنة الأحادية أو عبر المؤسسات الدولية لمنظور يحركه منطق الصفقات الثنائية، ويخدم بناءً على الأولويات الاقتصادية والأمنية الأميركية المباشرة. تكتسب الوثيقة أهميتها من كونها الأولى التي يعدّها فريق ترامب بعيداً عن موظفي الجهاز البيروقراطي الأميركي وخبرائه. وعلى الرغم من أن منطق السياسة الخارجية لأي دولة يسعى إلى تعظيم مصالحها الوطنية، فإن تعريف ترامب لطبيعة هذه المصالح وطريقة تأمينها هو ما يجعل الاستراتيجية مختلفة عن تقاليد راسخة في السياسة الأميركية، وتعد بمثابة إعلان رسمي عن نظام عالمي يسوده التشتت في علاقات القوى، وانعدام اليقين والفوضى. تنطلق إدارة ترامب لتصور أكثر انعزالية يأخذ مسافة من تقليد الهيمنة الأميركية الخالصة لفرض الاستقرار في النظام الدولي، والذي ساد بشكل خاص في حقبة ما بعد الحرب الباردة، أو التصور الليبرالي لإدارة العلاقات الدولية عبر المؤسسات الدولية متعدّدة الأطراف، والذي ميز بعض الإدارات الأميركية من الحزب الديمقراطي.
ترى الوثيقة أن الاتجاه التقليدي للولايات المتحدة للهيمنة على العالم لا يستجيب للمصالح الوطنية، وأن شؤون الدول الأخرى قد تمثل فقط محط اهتمام للسياسة الأميركية عندما تمثل تهديداً مباشراً للمصالح الأميركية. وتشدّد الوثيقة على أولوية الحد من التدخل العسكري خارج الأراضي الأميركية باستثناء عندما يكون هناك تهديد مباشر للأمن الأميركي كما تمثل هذا العام في توجيه ضربات أميركية للقدرات النووية الإيرانية. في هذا السياق، لا بدّ من أن تعتمد أوروبا على نفسها في حماية أمنها ودفاعاتها، وروسيا لا تمثل بالضرورة خطراً على أميركا كما هو في الإدراك الأوروبي، والشرق الأوسط لم يعد له الثقل نفسه الذي تمتع به بالنسبة للسياسة الأميركية منذ منتصف القرن العشرين، خصوصاً في ظل توسع أميركا في إنتاج الطاقة محلياً، وتنوّع مصادر جلبه للداخل الأميركي. فهيمنة قوة معادية على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط أمر لن تسمح به الولايات المتحدة، مع بقاء أولوية تأمين الملاحة عبر البحر الأحمر، ومضيق هرمز، ومواجهة أي تهديداتٍ مسلحة للمصالح الأميركية. لكن تحقيق هذا لا يعني بالضرورة الانغماس المكثف في السياسات الداخلية والإقليمية لدول المنطقة. وستركز الإدارة الأميركية على علاقات الشراكة الاستثمارية والاقتصادية مع شركائها في المنطقة العربية، من دون ممارسة ضغوط على أنظمة الحكم وتقاليده. على النقيض من ذلك، دول أميركا الشمالية والجنوبية (نصف الكره الغربي) منطقة أكثر أهمية للأمن الأميركي، خصوصاً في مجالات مواجهة الهجرة والجريمة المنظمة. وتعلن الاستراتيجية عزم الولايات المتحدة على فرض نفوذ حصري داخل نصف الكرة الغربي ومنع أي وجود لقوى دولية منافسة. وقد تجسّدت هذه السياسة في التوجهات العدائية لترامب تجاه حكومة فنزويلا، ومن قبلها بنما.
رؤية الوثيقة لمستقبل الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي هي الأكثر إثارة للجدل لما تمثله من قطيعة صريحة مع التقاليد الأميركية في بناء تحالف استراتيجي وثيق مع الحلفاء الأوروبيين
ووفق المنطق الانعزالي نفسه، لا يمثل التوسّع في برامج المساعدات الدولية أولوية للسياسة الخارجية، ولا تخدم فلسفة حرية التجارة العالمية الاقتصاد الوطني في ظل تفضيل سياسات الحماية الجمركية. كما توجه الوثيقة انتقاداً للمؤسّسات الدولية متعدّدة الأطراف باعتبارها تمثل تهديداً للسيادة الوطنية، والمصالح الأميركية الوطنية. في هذا السياق، ترفض الوثيقة السياسات الدولية لمواجهة التغيرات المناخية لما لها من تداعيات اقتصادية وأعباء مالية غير مبرّرة.
ورؤية الوثيقة لمستقبل الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي هي الأكثر إثارة للجدل لما تمثله من قطيعة صريحة مع التقاليد الأميركية في بناء تحالف استراتيجي وثيق مع الحلفاء الأوروبيين، وتحمل القسط الأكبر من أعبائه نيابة عن الدول الأوروبية. توجّه الوثيقة نقداً حادّاً لطريقة إدارة الاقتصاديات الأوروبية، وترهّلها وثقل القوانين والأطر التنظيمية الصادرة عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل. تدعم الوثيقة أفكار اليمين الأوروبي المتطرّف عبر انتقاد مشروع الاتحاد الأوروبي باعتباره يمثل تحدّياً لسيادة الدول الوطنية الأوروبية، وتحدّياً للتقاليد الثقافية والهويات الوطنية، خصوصاً مع تمدّد سياسات الهجرة واللجوء للقارّة الأوروبية. وفي إطار رؤيتها إلى أولوية المصلحة الوطنية الأميركية، وللحد من دورها العالمي، تطرح الإدارة الأميركية في الاستراتيجية مبدأ تحمّل الأعباء ونقلها إلى الشركاء الدوليين. في هذا السياق، دفعت إدارة ترامب أوروبا إلى زيادة إنفاقها العسكري، بحيث تقل المساهمة الأميركية في الأمن والدفاع في أوروبا، وألا يكون حلف شمال الأطلسي (الناتو) حسب الرؤية الأميركية مظلة مجانية للأمن الأوروبي. وقد أسفرت الضغوط الأميركية عن جعل أعضاء الحلف يرفعون نفقاتهم الدفاعية من 2% إلى 5% من إجمالي الناتج المحلي.
فتح التغير الأميركي تجاه أولويات الأمن والدفاع في أوروبا، والرؤية المغايرة للتهديد الروسي، المجال لحرب باردة ممتدة بين الدول الأوروبية وروسيا
فتح هذا التغير الأميركي تجاه أولويات الأمن والدفاع في أوروبا، والرؤية المغايرة للتهديد الروسي، المجال لحرب باردة ممتدة بين الدول الأوروبية وروسيا، تقوم على سباق التسلح والردع وإعادة تعريف أولويات السياسة الخارجية الأوروبية، بحيث تركّز على حماية (والتأثير على) دول الجوار الشرقي والتماس الجغرافي مع روسيا. في المقابل، أطلق الاتحاد الأوروبي “الميثاق من أجل المتوسّط” لتعريف علاقاته مع دول جنوب المتوسّط والشرق الأوسط على أساس مصلحي، بحيث يقوم على تعبئة المنافع الاقتصادية ومصادر الطاقة والاستثمار، وتنظيم انتقال الأفراد. وتتبنّي الوثيقة انتقادا لما تعتبره انكماشاً للحريات الديمقراطية في أوروبا، في إشارة إلى توجّه دول أوروبية كثيرة في فرض قيودٍ على خطابات الكراهية أو التمييز والعنصرية مع تصاعد تأثير قوى اليمين المتطرّف. كرّرت الوثيقة في هذا الموضع ما أشار اليه نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في كلمته في بداية العام الجاري (2025) في مؤتمر ميونخ للأمن، عندما وجّه انتقادات للديمقراطية الأوروبية في دفاعه عن أحزاب اليمين المتطرف، وحقها في الوجود وممارسة حرية التعبير.
لا تمثل استراتيجية الأمن القومي الأميركية مجرد تعديل في أولويات السياسة الخارجية، بل تعكس تحوّلاً هيكلياً في تصور الولايات المتحدة دورها في العالم. فهي إعلان صريح عن نهاية مرحلة القيادة العالمية بوصفها عبئاً استراتيجيّاً، وبداية مرحلة أكثر انعزالية تقاس فيها العلاقات الدولية بمنطق الصفقة والمصلحة المباشرة. تضع السياسة الأميركية الجديدة حلفاءها في أوروبا والشرق الأوسط، أمام مسؤولياتٍ غير مسبوقة لإعادة تعريف أمنهم الجماعي وخياراتهم الاستراتيجية. كما أنها تترك فجواتٍ تملأها قوى دولية وإقليمية أخرى، في عالم يتجه بصورة متسرّعة نحو تعدّدية مضطربة. لا تبدو هذه الاستراتيجية مجرد وثيقة توجيهية لإدارة بعينها، بل علامة فارقة على انتقال النظام الدولي إلى مرحلة جديدة عنوانها: انعدام اليقين، وتراجع المعايير، وصعود السياسة الواقعية المفرغة من أي التزام أخلاقي أو مؤسّسي. لا يُنذر هذا التحوّل فقط بتراجع الدور الأميركي التقليدي ضامناً للنظام الدولي الليبرالي، بل يفتح المجال أمام نظام عالمي أكثر تفكّكاً وتنافساً، تتراجع فيه القواعد المشتركة لصالح توازنات القوة، وتتقلص فيه مساحة القيم العالمية.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى