
“في واحدة من أكثر اللحظات حساسية”، بحسب وصف مارك سافايا، مبعوث الرئيس ترامب، الذي يؤمل أن يحط ركابه في بغداد، بعد عطلة رأس السنة، وعلى وقع حركة إقليمية نشيطة تقودها الولايات المتحدة على أكثر من محور ومسار يتأثر المشهد السياسي العراقي على نحو ضاغط، ليتحوّل الى كتلة هشّة يسودها التشوش والتناقض والغموض، إلى درجة أن أياً من الفاعلين الأساسيين في “العملية السياسية” الماثلة لم يعد بإمكانه تحديد ما يريده، وما يمكن أن يصل إليه، والكلُّ يسابق الوقت لتجنب أية تداعيات لا يكون راغباً فيها.
وحدها الولايات المتحدة تملك كلمة السر، وقد نقلها إلى المنخرطين في المشهد أكثر من مبعوث، كما كشفت عنها تغريدات أطلقها أكثر من مسؤول أميركي عبر هذا المنبر أو ذاك، وآخر ذلك ما أكّده سافايا، في بيان له أعلنه أخيراً، أن ثمّة خيارين أمام بغداد، “إما دولة قوية ومستقرة في الشرق الأوسط الجديد أو تدهور اقتصادي، وفوضى سياسية، وعزلة دولية”، وفي التفاصيل: حصر السلاح بيد الدولة، وتفكيك المليشيات، وتقويض هيمنة وكلاء إيران على حكومة بغداد، وبناء شراكة اقتصادية وأمنية واستثمارية مع الولايات المتحدة.
والمعضلة الصعبة التي تواجه بغداد جراء التطورات المتسارعة التي أطبقت على منطقة الشرق الأوسط وقوفها أمام هذين الخيارين اللذين يبدو أحلاهما مرّاً، وليس أمامها هذه المرّة سوى الإذعان، خصوصاً بعد الضربات القاصمة التي كسرت ظهر “محور الممانعة”، ووضعت “الجمهورية الإسلامية” التي كان يعول عليها “الوكلاء” العراقيون في مأزق جيوسياسي حرج، وقد وجد هؤلاء أنه لم تعد هناك ثمة مساحة، ولو محدودة، للرفض، ولذلك، وعطفاً على وصية “الولي الفقيه” التي نقلها إسماعيل قاآني، مسؤول فيلق القدس في الحرس الثوري، في آخر زيارة له، شرعوا في طرح صيغة توفيقية تقوم على قاعدة أن “لا يموت الذئب، ولا تفنى الغنم”، تضمن “حماية” زعماء المليشيات مما قد يطاولهم من تحقيقات أو محاكمات عما ارتكبوه من جرائم، مع إبعادهم عن مناصب الدولة الرئيسية، ودمج مليشيا “الحشد الشعبي” مع قوات الجيش، والعمل على شراكة اقتصادية كما تريد واشنطن، وإن بدت هذه الصيغة أقل من العرض الذي قدمه الرجل الأول في “الإطار التنسيقي” نوري المالكي عند لقائه بالقائم بالأعمال الأميركي في بغداد، والمتضمّن استعداده تنفيذ مطالب واشنطن في تفكيك المليشيات، والدخول في عملية “التطبيع”، والمضي في شراكة اقتصادية معها إذا ما عاد لتسنّم رئاسة الحكومة، رغم أن المالكي نفسه كان إلى حدٍّ قريب متشدّداً في التمسّك ببقاء “الحشد الشعبي”، ومتوافقاً مع طروحات طهران. وعلى أية حال، يبدو أن الصيغة المقترحة التي يُراد منها الالتفاف على مطالب واشنطن الصريحة فات زمانها، ولم يعد في وارد الأميركيين القبول بها، خصوصاً أن دمج المليشيات مع وحدات الجيش النظامي، إذا ما تم، سيحوّلها إلى “خلايا نائمة” يمكنها التحرّك في أية فرصة إذا ما ارتأت مصلحة “الجمهورية الإسلامية” ذلك.
دمج المليشيات مع وحدات الجيش النظامي، إذا ما تم، سيحوّلها إلى “خلايا نائمة” يمكنها التحرّك في أية فرصة إذا ما ارتأت مصلحة “الجمهورية الإسلامية” ذلك
وثمّة مفارقة تظهر في صلب المناقشات الدائرة، أن نتائج الانتخابات البرلمانية أخيراً التي كان “الوكلاء” يعوّلون عليها في الإبقاء على هيمنتهم على السلطة والقرار لم تعد في الحساب، ولن تكون هناك أهمية عملية للبرلمان الجديد في ممارسة دور رقابي على ما تقرّره الحكومة الجديدة التي سيكون برنامجها مرتبطاً بالأولويات الأميركية، وقد تدفع تطوّرات كهذه إلى طرح إمكانية حل البرلمان في أي وقت، وإجراء انتخاباتٍ جديدة، إذا ما شكّل ذلك عائقاً أمام ما تريده أميركا.
وعلى هامش كل هذه التداعيات، ترتسم حقيقة لا ينبغي تجاهلها أن الحديث عن مطالب أو شروط أميركية على (دولة!) العراق يعني وجوداً عسكرياً، وهيمنة على الاقتصاد، وسيطرة على القرار، ولنقل إنه “استعمار” من نمط جديد”، فهل يحسب المعنيون هذا كله؟
ولا تكتمل هذه المقالة من دون طرح سؤال أكثر حدّة: هل الشراكة الأميركية – العراقية ضرورة استراتيجية، بما يعنيه ذلك من تحول جيوسياسي له نتائجه ومآلاته على المدى الطويل، أم هي نوع من الحل يبدو مطلوباً في المرحلة الحاضرة لأكثر من سبب إلى أن يجيء أوان إعادة النظر فيه، إذا ما استجدّت ظروف مواتية لأمر كهذا؟
ومعروفٌ أن كل الأسئلة الحادّة غالباً ما تأتي إجاباتها متأخّرة.
المصدر: العربي الجديد






