غزّة تحت الشتاء القاسي والدمار

يقظان التقي

يواجه الفلسطينيون في قطاع غزّة شتاءهم الثالث تحت تدمير شامل طاول البنى التحتية والمساكن والمستشفيات والمساجد والكنائس. ويقف المدنيون نساءً وأطفالاً تحت حطام المباني، يحاولون تعبيد الطريق لحياة ما مع خلط الرمال بالأقمشة والمياه، واستصلاح سبل عبور بانتظار إعادة البناء. يخافون المطر أكثر من الحرب المستمرّة، على الرغم من اتفاق الهدنة الهشّة التي تعاني أساساً من غياب آلية رقابية على الأرض، تكون مسؤولة عن ضمان احترامها في ظروف معيشية من النزوح القسري صعبة للغاية، وهم يتعرّضون للفيضانات فوق خيامهم الممزّقة، التي لا توفر لهم الحماية من المتساقطات والقذائف على حد سواء، ومعظمهم بلا عمل، والجدول الزمني للخروج من المأساة غير واضح.
يحتمي الغزّيون بحجارة الأنقاض. يرتجفون في الليل والنهار. ينامون في مساحاتٍ مؤقتة مصنوعة من الألواح والأقمشة والبطانيات، التي تقاوم قساوة الطقس، ويتطلب الوضع الإنساني تدخلاً عاجلاً دولياً وعربياً فعالاً لإنقاذ السكان، خصوصاً على الساحل المكشوف، ولتأمين 300 ألف خيمة جديدة، لم يجرِ تسليم سوى 20 ألفاً منها، والعالم يكتفي بالمشاهدة، في حين يجب أن يدرك خطر هذا الجمود اللإنساني في غزّة.
توزع الأمم المتحدة المساعدات، ولكن الأرقام لا تتناسب مع حجم الاحتياجات تحت قيود مفروضة من الاحتلال الإسرائيلي في نقاط عبور الشاحنات المحدودة، إذ يستمر حظر المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر الذي فيه أكثر من مليون ونصف مليون فلسطينيّ من الذين جرى تهجيرهم من منازلهم قسراً منذ بداية الهجوم الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
دمرت الحرب أكثر من 123 ألف وحدة سكنية، وتضرّر 75 ألف مبنى آخر، ما يمثل 85% من مباني المنطق
فقد النازحون الحد الأدنى الضروري لبقائهم، وهم يعيشون من دون حماية في البرد والرياح والأمطار، ومن كابوس الحرب المستمرّة، ويُتركون لمصيرهم يعانون الجوع وسط العاصفة، ويموت عشرات الأطفال الرضع من الصقيع، في وقت يواصل فيه الجيش الإسرائيلي هجماته في مئات الانتهاكات لوقف إطلاق النار منذ دخوله حيّز التنفيذ في 10 أكتوبر/ تشرين الأول، ومن دون نهاية في الأفق، إذ لا يرى الفلسطينيون الأمل في تحقيق عائد ما بعد الحرب.
شعب فلسطيني يتحرّك تحت وطأة 68 مليون طن من الأنقاض وتحت المطر، إذ دمرت الحرب أكثر من 123 ألف وحدة سكنية، وتضرّر 75000 مبنى آخر، ما يمثل 85% من مباني المنطقة، وفقاً لأحدث مراجعة للصور الفضائية من الأمم المتحدة. هذا هو الجزء العلوي من صور المدينة المدمرة غير الواضح، التي تشبه مشهداً من لعبة فيديو نهاية العالم. وغير الأنقاض المختلطة مع الذخائر والقنابل والصواريخ والقذائف التي لم تنفجر، بالإضافة إلى بقايا بشرية لآلاف المحاصرين تحت الأنقاض، وفقاً للسلطات الصحية الفلسطينية.
قد تستغرق عملية إزالة الحطام سنوات، والموارد لا تتوفر. وتملك إسرائيل وسائل النقض والهدم مجدداً. وقدرت الأمم المتحدة كلفة إعادة الإعمار بنحو 70 مليار دولار، ولا يرغب المانحون في تحمل التكاليف، من دون أن يعرفوا أن الحرب انتهت بالفعل، ولا تلاقي الخطّة التزاماً مالياً، إذا لم يسمح للفلسطينيين بالعودة إلى مناطقهم الأصلية، والتنقل بحرّية خارج الخط الأصفر. فيما تدعو خطة السلام المقترحة إلى نشر قوة حفظ سلام دولية لأداء هذه المهمّة التي لم تنشأ بعد. ولا يبدو أحدٌ متحمّساً للانضمام إليها. ولا تزال الفكرة غامضة في مناورات فاشلة تستمر الدولة العبرية من خلالها في تحريك صراعات أخرى في المنطقة، ومن غير المحتمل أن تنجح في غزّة، وفي رفح المهدّدة بالتشريد إلى مصر، كما يهدد بعض القادة الإسرائيليين.
هذا كله ينتظر أن تتوصل حركة حماس وإسرائيل إلى اتفاق بشأن المرحلة الثانية، إذ تستمر الخلافات حول من يسيطر على القطاع، ويمكن للأمر أن يستمر سنوات قبل إعادة إعمار، التي تقدّر الأمم المتحدة كلفتها بحوالى 70 مليار دولار (لم يعرف من سيتحمل جزءً كبيراً منها، ولم يجرِ التوصل إلى اتفاق بشأنها)، ولا تحديد كيف يعيش الفلسطينيون، أولئك الذين بقوا، وتمتد حياتهم سنوات مقبلة بعد الحرب.
تتناقص المساعدات من الأمم المتحدة، وتمتنع إسرائيل حتّى عن إعطاء تأشيرات خروج الأطفال المرضى من البرد
يهيمن على نهاية العام شعور أقسى من الظلم الرهيب، الذي ما زال يسمح لإسرائيل بعدم تقديم تنازلات، وتستمر في القصف والتهجير وعدم الاستجابة للهدنة كلياً، والهيمنة على طبيعة العلاقات التي تريد نسجها مع دول المنطقة لجهة الاعتماد عليها في الاستقرار الإقليمي المفقود، في ظل إنذارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في كتلة ضخمة من الخطوط الصفراء. فبعد أشهر على وقف النار، لا “حماس” وافقت على نزع السلاح، ولا إسرائيل تروّج بديلاً من الحرب، وهي تعمل على توسيع بقائها والبناء على الخط الأصفر، والناس بحاجة ماسّة إلى منازل ووظائف وخدمات.
لا توجد خطوط قابلة للتغيير والتطبيق، فيما يقترح ترامب تحويل غزّة إلى منتجع ساحليّ، بينما يقدّم بعض رجال الأعمال الإسرائيليين خطة لبناء مصانع تسلا، ومراكز بيانات الذكاء الاصطناعي على الأنقاض! لقد جُرِّبت حلول عديدة، ولم ينجح أي شيء مع إسرائيل؛ لأنها دولة بربرية، ولن تسمح بإعادة تقييم حرب إبادة تقوم بها، وستعمل على توطيدها لتستمر مأساة الفلسطينيين ويستمرّ تدهور حيواتهم أكثر. ومن المحتمل أن يتركّز الاهتمام العالمي على تقديم الحد الأدنى من المساعدات لإعادة التأهيل، وليس لإعادة البناء، وبالكاد سيحصل الغزّيون على مياه التحلية وبعض المساعدات والملاجئ المؤقتة في برنامج غذائي متعثر.
تواجه غزّة حالة طوارئ من عدم المساواة الإنسانية. واحدة من الإهانات البشرية المتزايدة في تطبيق حقوق الإنسان وعواقب جرائم الإبادة المرتكبة بحق السكان الفلسطينيين. تتناقص المساعدات من الأمم المتحدة، وتمتنع إسرائيل حتّى عن إعطاء تأشيرات خروج الأطفال المرضى من البرد، فيما تستهدف الصحافيين والمدنيين والأنشطة الأخرى. صارت الأمور جزءاً من التحدّيات الكبرى التي تواجه المجتمعات الإنسانية في جميع العالم، ولن تكون مريحة لأحد. وستؤدّي إلى عواقب وخيمة على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في العالم.
كل شيء يمشي بطيئاً من دون تغيير مع استمرار إسرائيل في حربها وسلطتها على القطاع، وهي تراهن على مغادرة سكانه
تتطلب معالجة الشتاء الفلسطيني الطويل تعاوناً دولياً أكبر، وجهوداً متسعة لا تقتصر على شخص ترامب نفسه وإنذاراته، بل على المجتمعَين العربي والدولي، والمجتمعات الحديثة للوصول إلى حلول مستدامة تهدف إلى إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المدنية والإنسانية، وضمان الحصول على الفرص والموارد اللازمة لتحقيق حياة متساوية مع الآخرين. لا يحتاج الفلسطينيون إلى مزيدٍ من التفاوض على قضيّتهم، أو انتظارات مجلس السلام الأميركي، وحجم الاستجابات التي دعا إليها في 2026، أو حجم مبيعات الأسلحة إلى المنطقة، أو التنافس على الاستثمارات المقبلة، ومناورات لتقسيم الأراضي وبناء المدن المعيارية. هذا إذا جرى بناؤها فعلاً. في وقت تستمر إسرائيل في قضم الضفة الغربية، لتبدأ التفكير في عملية السّلام.
لا يبدو أن الأمور في الحروب التي اجتاحت الشرق الأوسط على مدى السنوات الثلاث الأخيرة تتّجه إلى الحسم، من نوع نشر قوات حفظ سلام دولية في غزّة، وتقديم ضماناتٍ بأنّ الحرب قد انتهت بالفعل. لا يبدو أن هذا كله واضح. كل شيء يمشي بطيئاً من دون تغيير مع استمرار إسرائيل في حربها وسلطتها على القطاع، وهي تراهن على مغادرة سكانه، وتفتّش عن كل ما يمنحها فرصة لاستئناف القتال ضدّ الفلسطينيين في ظروفهم غير المحتملة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى