في العام 2006 وبعد خروجه من السجن ذهبت مع أصدقاء لي لتهنئته بالحرية – والحديث حول أحد أركان إعلان دمشق لاحقا وأحد أهم شخصيات الائتلاف – وكان الهدف الحقيقي من زيارته هو التأكد من تصريح نسب إليه وهو في السجن يقول فيه إن الولايات المتحدة قد ضحت من أجل نقل العراق من الديكتاتورية إلى الديمقراطية.
كانت مفاجأة صادمة لي حين أكد تصريحه بثقة تامة، بل وعرض شرح رأيه في أننا في السابق ارتكبنا خطأ كبيرا في الوقوف ضد السياسة الغربية في المنطقة، لكني حاولت اختصار الحديث فأنا لست بحاجة سوى للتأكد من أن أحدا لم يختلق ذلك التصريح الغريب الذي نسب إليه وهو في السجن.
أثناء تلك الفترة وفيما بعد تأكد وجود تيار ليبرالي محدث وسط النخب السياسية السورية، انتقل جزء منه من الماركسية إلى الليبرالية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانهيار الايمان بالماركسية وسط اليسار العالمي والسوري إلى هذا الحد أو ذاك. حينها كان قد خرج من السجون السورية معظم الشباب الذين دخلوا إليها كمعارضين يساريين وخرجوا منها وقد خط رؤوسهم الشيب ولم تعد الماركسية تعني لهم سوى ذكريات من الماضي دفنها السجن وعالم جديد يولد حيث روسيا اللاهثة وراء الغرب والمعسكر الشرقي الذي تفتت قطعا في مهب الريح الغربية.
من أحشاء تلك البيئة القاسية التي مازال الاستبداد يسمها بطابعه الثقيل خرج تيار الليبرالية الثقافية الجديد ليحط رحاله في موضوعات مثل حقوق الانسان والديمقراطية السياسية.
أما الجزء الآخر الذي لاقاه التيار الثقافي السابق فهو يمثل صعود رجال الأعمال التقليديين المدنيين وطموحهم في اقتحام ميدان السياسة لإجراء التحولات التي ساد الاعتقاد بأن سورية قد أصبحت قريبة منها نحو نظام يطوي صفحة تدخل الدولة الواسع في الاقتصاد، والأحزاب الايديولوجية، كمسار ملحق بمسار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي البائد.
استطاع هذان المكونان ايجاد شكل من التفاهم حول رؤية سورية المستقبل في وجه نظام سياسي ظهر وأنه قاب قوسين من الانهيار خاصة بعد الانسحاب من لبنان عام 2005 .
في العام 2011 خرج مئات الألوف من الشعب السوري للشوارع بعد ثورات جماهيرية في تونس ومصر بدأت تمتد لليمن وليبيا ظهرت وكأنها طوفان عربي (الربيع العربي) هدفها الحرية والكرامة وإنهاء أشكال الاستبداد.
ولفترة قصيرة بدا وكأن النظام على وشك السقوط كما سقطت الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، هكذا بدأ التحضير في إعلان دمشق لقيادة الحركة الشعبية نحو الانتصار والتغيير.
وفي الخارج الذي لجأ إليه قادة الإعلان أو الجناح الليبرالي خاصة، أصبحت الفرصة مؤاتية للترويج للبرنامج السياسي الذي يستند للرؤية الليبرالية التي سبق أن لخصها أحد أركانه الرئيسيين منذ أن كان في السجن وهي الاستعانة بالولايات المتحدة لنقل الديمقراطية لسورية كما فعلت في العراق.
تلك الرؤية التي أثبتت الأحداث فيما بعد خطأها البالغ وأنها منعت وضع استراتيجية صحيحة للحركة الشعبية ودفعتها باتجاه قبول فكرة التسلح باعتبار المواجهات المسلحة مع النظام مرحلة عابرة ريثما تضطر الولايات المتحدة للتدخل كما فعلت في ليبيا حيث قضت على جيش القذافي بينما كان في طريقه لاقتحام بنغازي واستعادة السيطرة على البلاد.
لكن انتكاسة الحركة الشعبية وفشل مشروع الثورة والذي لا يعني بالطبع رضوخ إرادة الشعب السوري للاستبداد، لم يدفع ذلك التيار الليبرالي الذي تصدر واجهة المعارضة السورية للقيام بعملية نقد للذات سوى ما قدمه الدكتور برهان في كتابه ” عطب الذات- وقائع ثورة لم تكتمل ” ونال من أجله غضب ذلك التيار الذي لم يكن لديه مثل تلك الشجاعة في النقد، بل صمم على دفن أخطائه وإحالتها بكاملها لتيار الإسلام السياسي.
لم تنته القصة عند ذلك الحد.
فقد تلاقى ذلك التيار بعد فشله مع مؤسسات دولية بحثية وحقوقية تمولها دول ومراكز نفوذ غربية مهتمة باستغلال الكارثة السورية ومشاعر اليأس والاحباط لدى السوريين في معاناتهم الهائلة داخل الوطن وخارجه من أجل تسويق أفكار تستكمل الاستراتيجية الغربية غير المعلنة لكنها شديدة الوضوح في تقسيم سورية وتدمير هويتها العربية، وجعلها مجرد كانتونات يربطها مع بعضها اتحاد كونفدرالي بحيث يكون هناك متسع في الدستور المرتقب لخروج أي دويلة أو كيان سياسي من الاتحاد بدون أي عائق ولأهون الأسباب.
لا يمكن النظر لهذا الهدف سوى بوصفه استكمالا لتدمير الدولة السورية وتهجير نصف الشعب السوري وإدخال تغييرات ديمغرافية بنيوية بحيث تصبح سورية مجموعة أقليات لا هوية تجمعها بعد إنهاء الهوية العربية سوى رابط شكلي يحمل اسم سورية باعتباره مجرد اسم لا أكثر ولا أقل.
انخرط تيار الليبرالية الثقافية بعد فشله في المعارضة السورية بغالبيته في تلك المهمة غير المقدسة في الترويج لذلك المشروع الغربي , ومقابل ذلك فتحت له الأبواب , وأنشئت من أجله مراكز البحوث , وتحت راية تطوير جيل جديد من المعارضة في المهجر يجري تسليحه بأدوات بحثية عصرية وغسل دماغه في الوقت ذاته , ليقوم بمهمة الترويج ضد استعادة الدولة السورية وضد الهوية العربية لسورية , ولدعم النزعات الانفصالية ومنحها التبرير الفكري والسياسي استكمالا لدعمها بالسلاح والمال من أموال النفط السوري الذي كان غاية وهدف التدخل الأمريكي , وبدلا عن تقديم الديمقراطية لسورية تم تقديم الخراب والتهجير ويتم الآن محاولة قطف الثمار بتقسيم سورية قطعا ممزقة بصورة نهائية وتسويق ذلك التقسيم .
إن انخراط تيار الليبرالية الثقافية بذلك المشروع لا يمكن وصفه بأقل من خيانة التراب والوطن السوري وعلى كل سوري مخدوع أن يعلم ذلك تماما وأن الشعب السوري لن يرضخ لتلك الارادة الاستعمارية الغربية وسوف تتحطم قريبا مثلما تحطمت محاولات الاحتلال الفرنسي تقسيم سورية في العشرينات من القرن الماضي.
ستبقى سورية موحدة وعصية على التقسيم، وستبقى عربية الوجه واليد واللسان.