سمارة القوتلي: ناشطة إعلامية تنتمي للثورة السورية، والكتاب يعتبر شهادتها عن السنوات الأولى للثورة. يعتمد الكتاب: الشهادة أسلوب البوح الشخصي، بترابط ناجح بين الحالة الذاتية للكاتبة، وبين الثورة وانطلاقتها وواقع الرصد اللحظي لها من قبل سمارة وغيرها من الناشطين الإعلاميين الميدانيين. إن هذا الربط بين الذاتي والموضوعي، في موضوع صميمي ووجداني لكل سوري خصوصا، ولكل حر في العالم عموما، جعل القارئ جزء من الحدث، يعيشه بكل تفاصيله المثيرة، الخوف الى درجة الرعب، حضور الموت اللحظي، متابعة قتل السوريين عبر عدسة كاميرا، لتتحول إلى خبر يصل الى العالم عبر الفضائيات التي كانت تهتم بالثورة السورية، وفظائع النظام المجرم، وتقدّمه للعالم وجبة لحظية على مائدتها الاعلامية، والكل يتسابق على نشر اللحم السوري كذلك اللجوء والمأساة على قناته.
لم تلتزم سمارة بأي ضابط كتسلسل زماني او مكاني في شهادتها، إنه بوح لا خطط له، سوى أنّه يغطي ماعاشته سمارة من شؤون الثورة السورية وانعكاسها بفعل النظام: القتل والتدمير والتهجير والأشلاء واليتم والمأساة من خلال كاميرتها، وما ترسخ من مشاعرها.
سمارة القوتلي إبنة مدينة دوما في الريف الدمشقي، إحدى أهم المناطق الثائرة على النظام المستبد منذ بداية الربيع السوري، حتى تاريخ الترحيل الجماعي لما تبقى من الناس والثوار، بعد مضي سنوات على الثورة، وحيث لم يبق من داعم للشعب السوري وثواره، فاستسلم للّجوء والتشرد. غادرت الناس بلادها وعاشت غربة و تشردا لا يعلم إلا الله إلى متى يستمر؟.
بيئة دوما متديّنة وريفية، وهذا يمثل قيودا على الفتاة في الحركة والتصرف، لكنّ سمارة البنت الكبرى لعائلتها، حيث لها اخ وحيد استشهد في قصف على منزلهم منذ بداية الثورة، وكذلك أختين أصغر منها، حقد الوالد والوالدة على البنات، لماذا اختار الموت الابن الذكر الوحيد ؟!، ولم يقتل احدى البنات؟!.، لكن القتل العشوائي لبراميل النظام و صواريخه وقذائفه، لا تميز بين ذكور واناث.
تمردت سمارة على واقع التمييز ضد المرأة في مجتمعنا، وقررت أن تخوض غمار الثورة بأصعب نشاطاتها؛ إنها التغطية الإعلامية لكل الأعمال الحربية للنظام بحق الشعب في دوما أولا، ثم في مناطق اخرى مثل القصير وحمص والرستن وغيرها. تركتها العائلة لعنادها ولم تستطع أن تمنع نشاطها، أهملنها، أما أهل بلدتها فقد اختلفوا على توصيفها، بين مقدّر لشجاعتها، وبين من يعتبرها متهورة بملاحقة الموت الموزع على البلد بفعل النظام المجرم، واعتبرها البعض سببا لمجيء طائرات الموت التي تصب حممها على البلدة نتاج إشارات البث الفضائي لاجهزتها. مع ذلك تُرك لها مساحة أن تتصرف بحرية لأنها ابنة بلدهم أخيرا، وهي تخدمهم عندما تسمع صوتهم للعالم، وتظهر ما يعيشونه من قتل وحصار وتجويع وضائقة حياتية. تعيش سمارة تجربتها بشغف المندفع لهدفه، دون الخوف من الموت المتربص بها في كل منعطف، تحمل كاميرتها و حاسوبها، تلتقط الصور والفديوات وتتواصل مع الفضائيات بالصوت والصورة، تنقل تقاريرها الميدانية، وهذا بحد ذاته عمل انتحاري، حيث النظام يتربص بالناشطين ويقتلهم عندما يصل إليهم.
عاشت سمارة مأساتها الشخصية والعائلية من عنف النظام، استشهد اخاها، واصيبت اختها التي تصغرها في قديمها وعاشت حياتها معاقة، تدّمر بيتهم جنى عمر والدها، وانتقلت مع العائلة من بيت متهدم الى آخر، هربا من الاستهداف العشوائي للنظام لبقايا مدينة هجرها أغلب أهلها، هربا من الموت القادم إلى بلدتها وناسها كل الوقت.
بدأت سمارة في توثيق كل ما يحصل أمامها من قتل وتدمير ومصائب يعيشها الناس الواقعين تحت آلة الحرب المسلطة على الشعب السوري، تواصلت مع الفضائيات ونقلت تقاريرها لهم، عمّمت اسمها المستعار سمارة؛ اخترعته بسرعة مستوحية اغنية شعبية خطرت على بالها،عندما سألها زميلها فداء عن الاسم الذي ستختاره من أجل ظهورها الاعلامي، قالت له سمرى، عدّله فداء ليكون سمارة، اما القوتلي فهو اسم لأحد شوارع مدينتها . كان التخفّي حالها وحال أغلب إن لم يكن كل الناشطين السوريين في كل المجالات تقريبا. إنه الرعب من النظام وانتقامه من العائلة والاقرباء والبلد وكل ما يحيط بالناشطين، لأنهم صوت الحقيقة الداحضة إدّعاء النظام عن إرهاب وإرهابيين، في وصفه لثورة الشعب السوري.
لم تكتفي سمارة في متابعة الحراك الثوري وكذلك توثيق القتل والتدمير ومتابعة حالة الناس قبل الحصار وبعده في مدينتها دوما. حيث عاشت واقع الحصار بكل تفاصيله، الجوع والبرد والحر وافتقاد كل مقومات الحياة، رصدت مشاعرها عندما كانت تشتاق لقطعة خبز مستحيلة، أو ملعقة ارز، او ورقة خس. كان الحصار قتلا علنيا لمن تبقى في البلدات والمدن تحت الحصار، وكان ذلك مقترنا مع التدمير والقصف بالبراميل المتفجرة وجميع انواع الاسلحة، لقد تفنن النظام المجرم في قتل الشعب السوري. كما رصدت معانتها ومعاناة اهل بلدتها ايام الشتاء القارص حيث لا مشتقات نفطية، وكيف قام الناس بقطع اشجار الزيتون المعمرة من مئات السنين، كذلك العنب، للحصول على لحظة دفئ مفتقد، قطعوا مصدر رزقهم التاريخي، ليعيشوا يومهم المحمل بالقتل والبرد والحرمان.
انتقلت سمارة بعد ذلك مع بعض الناشطين الإعلاميين الميدانيين الى مناطق ومدن اخرى مثل القصير والرستن وغيرها. ستنقل لنا سمارة بكل شفافية وأمانة واقع الثورة السورية عندما اصبح هناك مناطق محررة، وأصبحت تحت سيطرة الجماعات المسلحة المسماة الجيش الحر، ستدخل في تفاصيل واقع هؤلاء الذين صادروا الثورة لصالحهم، وكانوا في بعض الأحيان صورة مصغرة عمّن ثاروا عليهم. ستظهر المصلحية ورمزية القيادة وتتوالد الاجهزة الاعلامية التي تغطي عمل هؤلاء وتنفخ في نارهم. وقفت سمارة على مسافة من هؤلاء سواء في مدينتها حيث لم يتقبلوا تمردها واستقلاليتها، ولم يطّهدوها، تركوها بتجاهل متعمّد، لأنها لم تقبل أن تكون تابعة لهم. و الأسوأ أنها عندما انتقلت إلى أماكن أخرى لسيطرة الثوار، كان التعامل معها بارتياب إلى درجة تهديد حياتها ومن معها بالخطر. تابعت تحول الثوار الى إمارات ومكتسبات وتصفيات داخلية، ورصدت تغلغل النظام عبر ادواته الأمنية داخل الثوار ودورهم في التخريب الداخلي للثورة. تحدثت كثيرا عن فداء زميلها ونموذجها الثائر الناشط الإعلامي مثلها الذي رافقته في الإنتقال من دوما الى القصير ومن ثم الرستن، ما عاشوه على الطريق؛ الحواجز الامنية التي عبروها، المخاطر التي وقعوا فيها.
عايشنا تعب الناشطين الإعلاميين في حصولهم على ادواتهم التي تساعدهم في توثيق كل ما يرصدوه ويوثقوه من واقع الثورة، القصف والقتل والتدمير ورصد حياة الناس في الحصار والتشرد. الحاجة للكاميرا والابرة الفضائية والحاسب الآلي . الحاجة القصوى للأمان وحماية الذات، خاصة في مرحلة النشاط الإعلامي الميداني عندما كانوا في قلب بلداتهم في ريف دمشق دوما وداريا والمعضمية وغيرها، واحيائهم داخل دمشق مثل القابون والميدان وغيرهم، حيث النظام حاضر من خلال حواجزه وتفتيشه الدقيق ومداهماته الدائمة، وحاضر بعد ذلك بمجازره العلنية في الشوارع والأحياء بشكل عشوائي قتلا باردا للنساء والأطفال والشيوخ، على قاعدة الردع الجماعي التي اعتمدها النظام. كان مؤلما ان توثق سمارة وفداء وغيرهم الدم المسفوك امامهم، القتلى والجرحى والمصابين، وأنهم بالصدفة لم يكونوا هم الضحايا، آمنت سمارة وفداء وغيرهم من الناشطين الميدانيين اعلاميين وغيرهم، بأن الصورة والصوت إن وصل للعالم فقد يتدخلوا لمنع المجزرة بحق الشعب السوري، لكنهم أدركوا متأخرين أن ما حصل كان مطلوب دوليا، وأن النظام المستبد القاتل كان الأداة النموذجية لتنفيذ ذلك.
الحديث عن ما يزيد عن مليون شهيد ومثلهم مصابين ومعاقين، واثنا عشر مليون انسان؛ يعني نصف الشعب السوري مشرد ولاجئ. الموضوع يطال مدنا دمرت وهجّر اهلها. حمص، دوما، داريا، المعضمية، واحياء كثيرة من اغلب المدن السورية. كل ذلك وراءه بشر يعيشون انسانيتهم بصفتهم الفردية لهم ذواتهم ومشاعرهم وآمالهم ومصائبهم. كل أولئك لهم من يحبون وما يكرهون، مات الأب المعيل او الام الحانية أو الابن فلذة الكبد، تهدم البيت جنى العمر، وضاعت اشلاء الأولاد بين انقاض الأبنية المدمرة فوق رؤوس اهلها. كل ذلك وثقته سمارة وغيرها وقدمته شهادة للعالم، الذي تعامل معها حسب ثلاثية القرود: لا اسمع لا ارى لا اتكلم. عادت سمارة إلى مراهقتها التي لم تستطع أن تعيشها، و إلى حياة فداء الذي أحب ولم يعد يستطع أن يصل لحبيبته التي غادرها بالمكان اولا، ثم ليكون شهيدا برصاص قناص بعد سنوات في النشاط الإعلامي للثورة، وتعتقل حبيبته لنشاطها الثوري وتبقى في المعتقل سنة، لتخرج منهارة وتحتاج لعلاج نفسي وجسدي، وتهرب مهاجرة الى اوروبا وتبحث عن فرصة علاج. سترصد سمارة مآل الشعب السوري وثورته .وأنه تُرك ضحية للنظام القاتل، وللعالم يجني ثمار صمته وتواطئه عن ما يحصل في سورية في أسوأ موجة لجوء وقتل وتدمير في العصر الحديث.
تابعت سمارة مآل الناشطين الإعلاميين زملاءها، ورصدت أن أغلبهم كان مصيره القتل ، دخلوا في قائمة شهداء الثورة السورية الكثيرين. كان نجاتها من الموت المحقق في سنوات عملها الاعلامي في الثورة اعجوبة، وهو أقرب إلى رسالة إلهية لتقدم لنا شهادتها المكتوبة و الموثقة بالصورة والفيديو، لما تابعته من أحوال القتل والتدمير والمعاناة في الحرب على الشعب السوري طيلة سنوات الثورة الأولى .
تنتهي شهادة سمارة مثل بداية نصها بأنها لا بد من هروبها خارج سورية حيث أصبحت مستهدفة، وأنها غادرت إلى الميادين ووصلت الى مناطق سيطرة داعش؟!. ومن هناك وصلت الى تركيا، وانها عملت مع فضائية الجزيرة وأنها ما تزال مسكونة بكل ما عاشته.
إنها لم تغادر تجربتها، كما أن تجربتها لن تغادرها؛ ستبقى تعيشها عمرها كلّه.
وفي التعليق على شهادة سمارة القوتلي اقول:
إننا أمام نص -شهادة- مهمة جدا من جانبه الذاتي الإنساني المعاش الفردي لسمارة ومن حولها من بشر هم الناس اهلها وناسها وأهل سورية عموما. الشهادة تنظر لما حصل للسوريين من الداخل من عمق مشاعرهم، حبهم وكرههم مشاعر الخوف والامل والفجيعة والإحباط والضياع والصمود والتحدي والمواجهة والاستكانة، الاستعداد للشهادة، والغدر والخيانة والفداء، سمارة نموذج للثائر الذي باع ذاته لقضية شعبه: الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، تحركوا دافعين الثمن، مخلصين لما آمنوا به، غير نادمين، لم يفجعوا بما آلت له حال السوريين فقط، بل فجعوا أيضا بالصمت الدولي عن قتل السوريين. اكتشفوا بدمهم وتشردهم وتدمير بلادهم، لعبة السياسة الدولية القذرة والمصالح التي تجعلنا كبشر وشعوب وأن دمائنا مجرد حسابات مصالح عند حكام العالم الظالمين.
ننتظر من سمارة القوتلي المزيد فقد اوحت في شهادتها أن لديها الكثير مما لم تقله.
ننتظر شهاداتها وغيرها من ناشطي الثورة السورية للتاريخ، لعل ميزان العدالة الانسانية يستوي في قادم الايام.