
لم يكن ما عُرِف في المغرب، منذ أوائل السبعينيات، بـ”اليسار الجديد” إلا قوة شبابية تكوّنت في ساحة النضال الطلابي ضمن “جبهة الطلبة التقدميين”، وخصوصاً عندما التحمت هذه ببعض الحلقات الإيديولوجية التي كانت قد تكوّنت في أكثر من مدينة مغربية (الدار البيضاء، مراكش، الرباط، تطوان…)، وكان من أعضائها مناضلون شباب ضاقوا ذرعاً بالأوضاع القائمة في حزبين أساسيين (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرّر والاشتراكية)، فانسحبوا منهما بناءً على التبرير الذي كان سائداً، بمعنى ما، في المواقع المتقدّمة لحركة القوميين العرب التي وَسَمَت الأحزاب الشيوعية العربية بالتحريفية، وغيرها الوطنية بالانتظارية.
وعندما يؤرّخ بعض هؤلاء اليساريين لحركة “قَوْمَتِهِم” يسردون، دون كللٍ ولا ملل، وكذلك دون تدبّر، جملة من العوامل ذات التأثير الإيديولوجي الحاسم كانت، بالنسبة إلى كثيرين منهم، من الدوافع الأساسية التي عجّلت ببروز وعيهم المتقدّم بأهمية إنجاز الثورة في بلدهم بناءً على المحدّد الإيديولوجي اللينيني: “لا حركة ثورية دون نظرية ثورية”، ولعلها كانت أيضاً من المسلّمات التي من “الواجب” أن يُكْتَبَ بها نوع من التأريخ المتطابق، أو المنسجم، مع الاعتقاد اليقيني الذي بلور حركتهم العاملة في السر، وهي تنشئ هيكلها التنظيمي من خلال استيحاء النموذج اللينيني القائم على المركزية الديمقراطية.
أشير في الحقيقة إلى خمسة عوامل، أعرضها دون ترتيب تاريخي، وإن كانت متجاورة زمنياً: أولها: هزيمة 1967 والمقاومة الفلسطينية قضيةً، التي كانت من قبل في مستوى القضية الوطنية من حيث الدعم والمساندة والنضال. وثانيها، أحداث مايو الفرنسية في سنة 1968، التي فجرها الطلاب اليساريون من مختلف الاتجاهات الفكرية، وساندها المثقفون التقدميون بمختلف أشكال المساندة، ويمكن أن نجد من بين اليساريين المغاربة مَنْ كان من المشاركين في بعض أحداثها. وثالثها، الثورة الثقافية في الصين، وخصوصاً من خلال التأويل الفرنسي اليساري، حيث اعتُبِرَت انقلاباً فكرياً في الوعي وفي المهام الثقافية التي سارت عليها الثورة، كذلك فإنها كانت خطوة إيديولوجية يسارية “كاملة”، حوّلت الثورة الصينية إلى نموذج يُحتذى بكثير من المشايعة ضداً على البلشفية في الكثير من جوانبها. ورابعها، الانتفاضة البيضاوية، في 23 مارس/ آذار 1965، التي ارتبطت بحركة تلاميذ الثانويات احتجاجاً على الأوضاع التعليمية، وعلى “الإصلاحات” المغشوشة التي استهدفت أسّسه وأهدافه الشعبية. وآخرها، الطبيعة الاستبدادية للنظام القائم الذي كان، في تلك المرحلة، قد وضع المجال السياسي برمّته في خانة الاستثناء (1965)، وكان يرمي، من ذلك، إلى الحدّ من “تغوّل” المعارضة التقدّمية وإجهاض نموها التعبوي بالشعارات “الإطلاقية” التي كانت توجّه عملها، وتتحكم في نضالية جماهيرها الغفيرة في المراحل الأولى من بداية الاستقلال، وفي السياق العربي الذي التهب بالتحوّلات التي تسبّبت فيها الحركات القومية الوليدة كذلك.
لم يعمل القمع الرهيب الذي وُوجِه اليسار المغربي من النظام الاستبدادي، إلا على كشف أبنيته والتعجيل بتحطيم منازع قواده وتسفيه أحلام مناضليه بعامة
وغالب الظن أن مجمل هذه العوامل كانت، بدرجاتٍ مختلفة، واعية ومفهومة، وفيها من البواعث ما يمكن أن يوجِّه التفكير والعمل في السياق الذي كان لها في مختلف المجتمعات التي قامت وظهرت فيها وتوخّت، بحكم القالب التحرّري اليساري والإنساني الذي احتواها، أن تكون عوامل تأثير مباشر، لأنها، في التوجّه العام، كانت تتغيا الثورة والتغيير. على أن ما قد يثير انتباه المحلل أن عناصر التأثير المشار إليها كانت، في الحقيقة، في بداية التكوّن الإيديولوجي لهؤلاء اليساريين، وربما أسبق من وعيهم ومعرفتهم بحقائق الواقع الموضوعي الذي تحرّكوا فيه، أو توجّهوا نحوه. وفي علاقة بهذا المعطى الجوهري، كانت العناصر الثقافية المذكورة مبنية، في ظروفها وطبيعة إدراكها، على تأويلٍ سياسيّ مُفَارِق للسياق التاريخي الذي وَلَّدَ تلك العوامل في الأوضاع الخاصة، الموضوعية والذاتية، التي كانت لها ضمن حركة التطور الاجتماعي، أو السياسي، الذي كان، بِالمِثْل، حاضناً لها. وأضيف إلى هذا أيضاً أن التأويل المشار إليه التَبَسَ بنوع من التخييل السياسي المبني على تصورات ذاتية لفئة من الشباب الطامح الحمَّال للثورة الشعبية على الاستبداد، كما كان شأن الشباب في تلك المرحلة على الصعيد العالمي تقريباً. وهذا ما جعل من التأثيرات المذكورة مجرّد شعارات نُسِجَت على نحو اعتباطي لم يكن القصد من بلورتها، في ما يبدو، إلا دغدغة الحماسة العاطفية الفَوَّارة التي خامرت العقول، وأنْجَبت في وعيها الشكل المعروف الذي حَذَّر منه لينين باسم “مرض اليسارية الطفولي”، حين عرّفها بأنها “شعارات صبيانية يسارية مُخْتَرَعة”.
أود التعبير عن فكرة، وهي مستخلصة من تجارب السنوات الخمسين التي مرّت على يسارنا في أزماته المتراكبة وعجزه التام، بسبب كثير من العوامل المتداخلة، كما أتصوّر، عن تجاوز “محنته” التاريخية، مفادها أن هذه “المحنة التاريخية” تجسّدت، منذ البداية، في الأزمة الذاتية الناتجة من أخطائه السياسية وطرائقه التنظيمية ووعيه الإيديولوجي المغلوط وأحلامه الرومانسية، أي بما يلخّص، بعبارات موجزة، فكره “الماركسي اللينيني” الذي لم يستوعب مِن جدوى “تحليله الملموس للواقع الملموس” إلا مفهوم الثورة التي تخامر الحالمين بغدٍ أفضل في لحظة خمول فكري. ولم يعمل القمع الرهيب الذي وُوجِه به من النظام الاستبدادي، بعد مضي أقل من سنتين على وجوده الديناميكي خارج أسوار الجامعة، إلا على كشف أبنيته والتعجيل بتحطيم منازع قواده وتسفيه أحلام مناضليه بعامة.
أشرح هذا في ضوء أطروحة مفادها بأن اليساريين المغاربة، الذين أرّخوا لتجربتهم السياسية والإيديولوجية، من خلال ما أسميتها العوامل المؤثرة في التكوين الإيديولوجي (الهزيمة وفلسطين، مايو الفرنسي، الثورة الثقافية، 23 مارس، النظام المستبد…)، كانوا أيضاً على وعي مدرك، من خلال الأخبار والتتبع والإعجاب والمشايعة كذلك، بأن “الثورة في اليمن الجنوبي”، بالقدر الذي كانت به تحقق أهدافها الثورية بعد خروج الاستعمار البريطاني، كانت، في الوقت نفسه، بعد مضي زمن من الصراعات التي نشبت على السلطة وحولها، والأهداف المنشودة والارتباطات النضالية والقومية…، تَحْفُر، بعد مضي ربع قرن فقط على انتصارها، تلك الحفرة الذاتية التي سقطت فيها، وَكَمْ كانت الخسائر فادحةً والضحايا كثيرين، بكامل مكوّناتها ومنجزاتها وقوادها الصغار والكبار: مَنْ تقدَّم منهم أو تأخَّر، مَن كان موالياً للسوفييت أو للتجربة الناصرية أو معارضاً لهما معاً، مَن كان مع الوحدة المبكرة ومن سعى لتأجيلها قصد استكمال مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية، مَن بقي موالياً للقبيلة وللعشيرة، ومن لاَعَبَ وَلَاعَبَه التصور الشيوعي فتنكَّر لعقلية السلطة الدينية في مجتمع متخلف البنيات والذهنيات… والأهم أيضاً أن “المتآمرين” من الأعداء اعتباراً لأحقادهم، والمناضلين بسبب “أمراضهم الإيديولوجية” أجمعوا، باتفاق مفترض، على أن التجربة، التي كانت بمثابة مستقبل لليسار العربي مشرقاً ومغرباً، يجب أن تقف حيث هي، بعد أنْ لم تعد لها أية كوابح ذاتية، لكيلا تُصْبِح قِبْلَةً (إلى جانب ثورة ظفار) للتحوّل الثوري المنشود في منطقة استراتيجية من الوطن العربي سبق لِكثيرين من العرب أن رأوا منها دولة اليابان كـ”نيهون” (أرض شروق الشمس) مثالاً للتقدّم وللنهضة الشاملة.
لم يؤرّخ اليساريون المغاربة لتكوينهم الفكري بالنموذج اليمني الجنوبي، رغم أنه كان حاضراً في وعيهم
لم يؤرّخ اليساريون المغاربة لتكوينهم الفكري بالنموذج اليمني الجنوبي، رغم أنه كان حاضراً في وعيهم، لأنهم يومَ التأريخ كانوا على وعي بالفشل الذي سيقت إليه الثورة على يد مناضليها وقوادها، للأسباب الإيديولوجية نفسها التي كانت في “النهضة” السريعة والقصيرة التي “تمتع” بها اليسار المغربي الجديد قبل انهياره وأزمته. المجتمع الموعود على مِثَالٍ يتحقق في اليمن الجنوبي، بناءً على استراتيجية الفكر الماركسي اللينيني، كان، في التصور المُنْجَز، مأزوماً، وفي ذاته من العوامل الكثيرة، ومنها مستوى استيعابه الفكر الماركسي بعامة، ما سيقوّض وجوده وبنيانه.
هي خشية في التأريخ، لأن الثورة في اليمن الجنوبي كانت قيد بناء المعمار “الثوري” في ضوء الاستراتيجية التي اختيرت، بالصعوبات المعروفة، لبناء الدولة الحديثة وتحقيق مجتمع الرفاه (الاشتراكي أو الشيوعي). ولكن ما لا يمكن طمسه، أو إغفاله في التأريخ لمصادر التكوين الإيديولوجي، أن الثورة في اليمن الجنوبي قُرِئَت من خلال الأدبيات (الرفاقية) التي سطّرها القيادي اليساري البارز في المقاومة الفلسطينية (الجبهة الديمقراطية) نايف حواتمة في كتابه المعروف عنها، هذا بالإضافة إلى وثائق أخرى، تنظيميّة وسياسيّة نشرت هنا وهناك، استلهم منها اليساريون المغاربة أكثر من موقف وخلاصة. ومن المفيد أن أقول إن القراءة هذه، حسبما استخلصتُه من الكتاب المهم الذي حاور فيه الإعلامي والشاعر المُكَرَّس بشير البكر أحد قياديي الثورة اليمنية الجنوبية (علي سالم البيض)، وصدر أخيراً (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2025)، كانت على قدر كبير من التطابق، أخذاً بالاعتبار الفارق الزمني، مع القراءة المماثلة التي قام بها الثوار اليمنيون الجنوبيون، في بداية تكوينهم الإيديولوجي، لتجربتهم الخاصة يوم انطلاق ثورتهم في أواخر 1967. كان التصوّر الفكري والإيديولوجي ماركسياً لينينياً مُسْتَنْسَخاً ومُؤوّلاً، ولكن الواقع بأبنيته المختلفة، فضلاً عن مستوى تطور المجتمع والآليات المتحكّمة فيه من نظام وعقائد وذهنيات، كان مُغيّباً بسبب “مرض اليسارية الطفولي”، فكان “التطابق” بين حتمية الثورة والهزيمة المحتملة وارداً.
المصدر: العربي الجديد