“أميركا أولاً” لا تعني ترك إسرائيل

لميس أندوني

رفع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ بدء ولايته الثانية شعاراً واضحاً؛ “أميركا أولاً”، يلخص جوهر سياساته داخليا وعالميا. يعني، دولياً، أن أي مصلحة لدولة أخرى، حتى لو كانت حليفا، لن تعلو على مصالح أميركا، وهذا ما فرض على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أي أن أميركا لن تتبنّى كل خطوة أو هدف تريده إسرائيل إذا اعترض ذلك هدف تحقيق هيمنة أميركية اقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية وتثبيتها، برؤيةٍ عنصريةٍ متطرّفةٍ لا تقبل التحدّي أو الشكوى.

ما تقدّم أعلاه كان واضحاً، وإنْ بدرجات أقل منذ فترة ولاية ترامب الأولى، لكن ذلك لا يعني الانجرار إلى وهم استعداد ترامب لوقف حرب الإبادة غير المشروطة بسيطرة إسرائيلية أميركية على قطاع غزّة أو وقف الزحف الاستيطاني وتدمير مخيمات ومدن في الضفة الغربية تمهيداً لضمّها وتهجير أهلها، بشرط أن لا تعرقل عمليات التطهير العرقي المعلنة أهداف ترامب في المنطقة، وهذا ما يحدث.

نعم، لم يستجب ترامب لدعوات إسرائيل لضرب إيران، بل تفيد التقارير بأنه يحاول منعها ليتمكّن من التوصل إلى اتفاق، ولو مرحليا، مع طهران حيال البرنامج النووي الإيراني، فهو لا يريد جر الجيش الأميركي إلى حرب إقليمية، وهذا كان خطه في ولايته الأولى بين عامي 2017 و2021، لكن ما اختلف نجاح إسرائيل في ضرب حزب الله، وإضعاف حركة حماس وإن استمرت الأخيرة بالمقاومة. أي أن ترامب ليس مستعدّا لأن يغامر بأهداف أميركا لمنع الصين من تهديد مكانتها بوصفها القوة العظمى إرضاءً لمزاج نتنياهو، الذي يسعى إلى تركيز أنظار العالم على التهديد “الوجودي” لإيران على إسرائيل وعلى ضرورة تدمير البرنامج النووي الإيراني، إذ لا يحق لأحد امتلاك برنامج نووي في المنطقة إلا إسرائيل. كما أن ترامب لم يتشاور مع نتنياهو، بل وتجاهله عشية جولته الخليجية وفي أثنائها، إذ اعتبر أن ما يريده نتنياهو ليس بالضرورة ما تريده واشنطن من تمتين علاقات واشنطن الاقتصادية الاستراتيجية بدول الخليج، فترامب، كما أعلن أكثر من مرّة، يريد الحصول على تمويل دول الخليج العربية بحجّة دفع ثمن الحماية الأميركية، فلا شيء وفقاً لترامب “يعطى مجّاناً”، ولضخ المال في السوق الأميركية والصناعات العسكرية وشركات تصنيع الطائرات المدنية، عليه؛ بدت طلبات نتنياهو واعتراضاته ليست أكثر من ضوضاء مزعجة لم يسمح لها بتعكير أجندة جولته الخليجية.

لم تُخفِ المراكز الصهيونية دهشتها بمدى تجاهل ترامب إسرائيل التي لم يشملها برحلته. ولكن يجب الحذر في تقييم ما حدث ويحدُث، فلم يحاول ترامب، ورغم حاجته إلى الصفقات مع دول الخليج، فرض وقف إطلاق نار على إسرائيل التي استمرت بارتكاب أبشع جرائم حرق العائلات والأطفال في غزّة شن حرب فرض المجاعة على أهلها. وبعد عودته أعلن عن بدء تنفيذ عملية توزيع طعام تحت إشراف شركة أمنية أميركية وإسرائيل، في أبشع صورة تستغل الجوع لإهانة الإنسان الفلسطيني، وهو يتباهى بإطعام الجياع والأطفال الفلسطينيين.

إن سماح ترامب بالاتصالات الأميركية المباشرة مع حركة حماس كان لأن لديها شيئا يريده، أي المحتجزين

كان ضرورياً أن تساق هنا بشاعة الصورة حتى لا نتوه تماماً في المبالغة في الخلاف بين ترامب وإسرائيل، فترامب لم يدَّع يوماً أنه صهيوني، ولم يكذب مثل مسؤولين ورؤساء أميركيين سابقين بأنه يشارك إسرائيل الحلم الصهيوني، ولا يهمّه المشروع الصهيوني لا من قريب و لا من بعيد. تهمّه مصالحه أولا، ويرى التحالف مع تل أبيب وفق منظور المصالح لا غير، لكن ذلك لا يعني أن حقوق الشعب الفلسطيني تعنيه، فإذا كان هناك من تناقضٍ مع إسرائيل، فلا يمكن المبالغة بتصوّر قدرتنا على استغلاله بتغيير المسار الرأسمالي الاستعماري لترامب، بمحاول استخدام حاجته إلى الدول العربية لوقف الحرب، ووقف التمدّد الاستيطاني في الضفة الغربية.

في السابق، وعلى الرغم من كل المآخذ التي كانت ولا تزال على النظام الرسمي العربي، كان هناك على الأقل، رسمياً وعلنا، ادّعاء بالالتزام بمركزية القضية الفلسطينية، ولا يقلّصها إلى مسألة تعاطف انساني غير موجود أصلا عن مشارك في الجريمة من خلال مد إسرائيل بالأسلحة المتقدّمة، فترامب لا يحترم الضعف. وأغامر هنا بالقول إن سماح ترامب بالاتصالات الأميركية المباشرة مع حركة حماس كان لأن لديها شيئا يريده، أي المحتجزين، وضرورة قبولها شروط الهدنة لأن لديها السلاح والإرادة لاستمرار القتال، بالرغم من الضربات الإسرائيلية القوية، لكن ذلك لا يعني أنه مهتمٌّ بدورها السياسي أو التمثيلي، فنحن نتحدّث عن شخص براغماتي إلى أقصى حد، فكلها صفقاتٌ بالنسبة إليه. عدا عن أن ترامب لم يأت من رحم المؤسّسة الرسمية الأميركية، ولا يلتزم بـ”المحرّمات”، مثل عدم التعامل مع منظّمات محظورة، مثل “حماس” و”أنصار الله” (الحوثيين)، فما يهمّه هو الوصول إلى ما يريد. ولا شك أن في ذلك تقويضاً مهمّاً لسياسةٍ حاول اللوبي الصهيوني الحفاظ عليها في أبجديات السياسة الخارجية الأميركية. ولكن تمرّد ترامب على “الخطوط الحمر” لم يؤثر على الهدف الإسرائيلي الأميركي من تمكين إسرائيل من السيطرة على قطاع غزة منزوعا من السلاح ومن أسس إعادة بناء مجتمع فلسطيني.

نقطة الضعف الأكبر في المشهد هي الانقسام الفلسطيني وغياب قيادة فلسطينية ذات رؤية تحررية

ومن المستبعد أن يقوم ترامب بعمل بحجم خطوة جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي السابق في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عام 1991، الذي ربط السماح بضمانات قروض أميركية لإسرائيل بتجميد قرار لها ببناء مستوطنات جديدة، إسرائيل اضطرّت للامتثال، حتى يقبل العرب بالمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام. ولكن حتى هذ الخطوة التي ما زال يجري تمجيدها يجب فهمها في سياقها، فقد لجأ بيكر إلى ذلك لأن بوش كان يعتقد أن مؤتمر سلام عربي- إسرائيلي كان ضروريا لتهدئة الشارع العربي بوعد زائف عن السلام في فلسطين، بعد بدء عملية تدمير العراق وإخراجه من دائرة المواجهة مع إسرائيل حتى بما هي قوة رادعة، لكن “التجميد” كان مؤقتاً، وتبعه بعد فترة تسريع وتوسيع في بناء المستوطنات.

ما تقدم لا يلغي فرصة، ولو ضيقة، للاستثمار في التباين الأميركي- الإسرائيلي، لكن الشرط الأول لذلك عدم تخلّي العرب عن الالتزام علناً وأمام أميركا وأوروبا بمركزية القضية الفلسطينية التي يحاول ترامب تصفيتها عن طريق توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية التي ما تزال أولوية أميركية كما أكّد وزير الخارجية الأميركي أنطونيو روبيو، وبكل وضوح وعنجهية.

نقطة الضعف الأكبر في المشهد هي الانقسام الفلسطيني وغياب قيادة فلسطينية ذات رؤية تحررية. لكن ذلك لا يعفي الدول العربية من مسؤولياتها في الدفاع عن فلسطين لأنه دفاع عن الأمن القومي العربي، المتآكل، لكن الثورة العالمية المستمرّة بتأييد الحق الفلسطيني التي انطلقت من قوة الفلسطينيين وشجاعتهم وصمودهم تنير ضوءاً لن يستطيع ترامب أو أي تواطؤ وقمع للشعوب العربية إخمادها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى