الطائرات الإسرائيلية التي باتت تسرح في الأجواء السوريّة بحرية شبه كاملة، لا يبدو أنها تضرب فقط الأهداف العسكرية التي تشكل وفق المنظور الإسرائيلي خطراً على الأمن القومي لتل أبيب، بل أصبحت تتلاعب بالخطوط الاستراتيجية والسياسية التي تحكم المشهد السوري الواقع تحت تأثير جهات إقليمية ودولية مثل روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا. ويأتي استهداف ميناء اللاذقية فجر اليوم الثلاثاء للمرة الثانية خلال أقل من شهر، ليؤكد خلوّ المجال الجوي السوري من أي خطوط حمراء أمام الطائرات الإسرائيلية التي على ما يبدو حازت على إجماع كامل من مختلف اللاعبين في الفضاء السوري بحقها في أن تتسلل بين مناطق النفوذ المختلفة لضرب ما تريد ساعة ما تريد.
ونقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية عن مصدر عسكري قوله إنه “حوالى الساعة 03:21 من فجر اليوم الثلاثاء نفذّ العدو الاسرائيلي عدواناً جوياً برشقات من الصواريخ من عمق البحر المتوسط غرب مدينة اللاذقية مستهدفاً ساحة الحاويات في الميناء التجاري في اللاذقية”.
وكانت ساحة الحاويات ذاتها قد استُهدفت بغارة إسرائيلية أخرى يوم الثلاثاء في 7 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، وذلك في سابقة من نوعها حيث كانت الغارات الإسرائيلية تقتصر على استهداف نقاط عسكرية مرتبطة بالنفوذ الإيراني أو تشكل محطة من محطات إيصال السلاح إلى “حزب الله” اللبناني. ومنذ عام 2013 تاريخ أول غارة إسرائيلية فوق الأراضي السورية منذ اندلاع الأزمة عام 2011 لم يسجل قيام إسرائيل بضرب أهداف اقتصادية أو خدماتية بشكل مباشر من قبل. وقد يشير ذلك إلى وجود دلائل لدى تل أبيب تثبت أن ساحة الحاويات في ميناء اللاذقية باتت تقوم بأدوار مشبوهة بالنسبة إليها ومن شأنها أن تشكل خرقاً للخطوط الحمراء التي رسمتها السياسة الإسرائيلية في سوريا وعلى رأسها، عدم تمكين إيران من التمركز في هذا البلد.
ويوجه معارضون سوريون اتهامات مباشرة إلى إيران بأنها باتت تتحكم بطريقة غير مباشرة بإدارة ميناء اللاذقية عبر شركات إيرانية أو شركات سورية موالية لإيران، ويضيفون أن الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري تستخدم ميناء اللاذقية في عمليات تهريب السلاح والمخدرات، مشيرين إلى ارتباط الفرقة بالنفوذ الإيراني.
وكان التنافس على إدارة ميناء اللاذقية بين روسيا وإيران قد اشتد بين عامي 2019 و2020 عندما تم تسريب معلومات حول نية القيادة السورية منح إدارة ميناء اللاذقية للإيرانيين للحفاظ على التوازن مع الروس الذين أخذوا ميناء طرطوس لمدة 49 عاماً على سبيل الاستثمار. غير أن إيران لم تستطع حسم التنافس لصالحها، إذ نجحت الضغوط الروسية في ثني القيادة السورية عن الإيفاء بتعهداتها للإيرانيين وقامت بتجديد عقد الميناء لمدة خمس سنوات للشركات نفسها التي كانت تديره وهي مجموعة CMA CGM ثالث أكبر شركة في العالم بمجال النقل البحري والخدمات اللوجستية والتي يقودها ورثة رجل الأعمال الفرنسي – اللبناني من أصول سورية الراحل جاك سعادة، وشركة “شام القابضة” التي تمثّل استثمارات نخبة من رجال الأعمال السوريين المقيمين والمغتربين.
وعليه فإن فهم الغارات الإسرائيلية المستجدّة على ميناء اللاذقية بأنها تنطلق من تنسيق مباشر بين روسيا وإسرائيل لاستهداف النفوذ الإيراني وحرمان طهران من إدارة ميناء اللاذقية تبدو في غير محلها ولا تستند إلى وقائع وأدلة ملموسة، خصوصاً أن إدارة الميناء لا تزال محسوبة على النفوذ الروسي بعد تجديد العقد السابق.
إدخال الأهداف الاقتصادية ضمن بنك أهداف الطائرات الإسرائيلية من شأنه أن يؤدي إلى إحراج السياسة الروسية في سوريا التي تقوم على مبدأ عبّر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقول إن “على الغارات الإسرائيلية أن تتفادى البنى التحتية ورموز النظام السوري” بحسب ما نقلت عنه وسائل الإعلام في أعقاب اجتماعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. غير أن مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف وضع الغارات الإسرائيلية ضمن ما سمّاه “الأعمال اللاإنسانية”، وقال خلال جلسة حوارية في قصر المؤتمرات في دمشق على هامش اجتماع لجنتي التنسيق الروسية – السورية، لمتابعة أعمال “المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين” في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، “إن روسيا تعارض بشدة هذه الأعمال اللاإنسانية، وندعو إلى إجراء اتصالات على كل المستويات مع الجانب الإسرائيلي لضرورة احترام سيادة سوريا وسلامتها الإقليمية ووقفها”، مشيراً إلى أن “الرد بالقوة سيكون له نتائج عكسية، لأن لا أحد يريد حرباً في المنطقة”. وشدد مبعوث الرئيس الروسي على أن “مثل هذه الأعمال الإسرائيلية غير شرعية، وتتجاوز إطار القانون الدولي”، مؤكداً أنه “لا يمكنك تحويل سوريا إلى ساحة لتصفية حسابات البعض بما فيهم المعارضون الإقليميون، لذلك سنواصل عملنا في هذا الاتجاه وسنسعى إلى وقف غير مشروط لهذه الأعمال”.
ويقع ميناء اللاذقية على مسافة أقل من 20 كيلومتراً عن قاعدة حميميم الروسية وهو ما قد يزيد الحرج الروسي ويجعل موسكو تبدو إما متواطئة مع الغارات الإسرائيلية أو غير قادرة على ضبط الجموح الإسرائيلي، وكلا الاحتمالين ينطوي على مساس كبير بموقع روسيا المهيمن في الساحة السورية. ولطالما طالبت موسكو، تل أبيب بأن تبلغها عن مكامن الأخطار التي تتهدد أمنها القومي في سوريا كي تقوم روسيا بالتعامل معها وبالتالي الاستغناء عن الغارات الإسرائيلية. وقدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مقترحاً إلى تل أبيب مطلع العام الحالي ينص على “أن تبلغها حال تسلمها أية معلومات عن تهديدات أمنية صادرة من سوريا، كي تتكفل بمعالجتها، وكي لا تكون سوريا ساحة للصراعات الإقليمية”، غير أن المقترح الروسي لم يلقَ أي رد من الجانب الإسرائيلي.
ويعتقد بعض المراقبين أن ميناء اللاذقية قد يكون أُدخل ضمن صراع استراتيجي بين روسيا وإيران وإسرائيل لإعادة رسم خريطة النفوذ بين الأطراف الثلاثة. وكما أن إسرائيل من خلال استهدافها المتكرر للميناء الحيوي تهدد بنسف قاعدة تفاهماتها مع روسيا القائمة على أساس اقتصار الغارات على ضرب مواقع النفوذ الإيراني من دون المساس بالبنية التحتية للاقتصاد السوري المتهالك أصلاً، فإن إيران من خلال إصرارها على إيجاد موطئ قدم لها في ميناء اللاذقية ومحاولة استخدامه من شركائها المحليين لتهريب الأسلحة والذخائر إنما تستهدف أيضاً ضرب إسفين بين روسيا وإسرائيل لخلخلة المعادلة القائمة بين الطرفين ووضع موسكو في موقف حرج نتيجة اضطرارها للصمت في أعقاب الغارات الإسرائيلية التي تضرب أهدافاً اقتصادية من شأنها أن تزيد الوضع الاقتصادي السوري تدهوراً، وبالتالي إظهار موسكو بمثابة الشريك في هذا الاستهداف أو العاجز عن وقفه.
المصدر: النهار العربي