(4) – المواطنة، ويدور الأمر حول ما إذا كان بالإمكان طرح مفهوم للمواطنة يقوم على أساس التوفيق بين مجتمع مؤمن ودولة لا دينية، أي دولة تحترم الدين وتصون الحريات الكاملة لرعاياها المؤمنين لممارسة شعائرهم الدينية، المتعددة والمختلفة والمتباينة، من دون أن تتخلى عن مدنيتها.
ويبدو أنّ مفهوم المواطنة التي تعتمد على الرابطة الجغرا – سياسية، وهو من أهم مفاهيم الدولة الحديثة، قد ظهر مع دعوة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، لكنّ التدقيق في تفاصيل هذا الإدراك للمواطنة في كتاباته، يجعلنا نجزم بأنه لم يكن واضحاً كفاية، فقد أدرك منه الجانب المتعلق بالمساواة في الحقوق والواجبات أمام السلطة، لكنه لم يدرك بشكل جيد الحقوق السياسية، وعلى ما يبدو كان مفهوم المواطنة مقتصراً على الجانب المدني. وهذا يعزز الرؤية القائلة بأنّ رواد النهضة العربية الحديثة لم يحيطوا إحاطة متكاملة بمقتضيات الدولة الحديثة، أو حتى بمفاهيمها، فالمسألة بقيت وعياً يمتد على أجزاء من هذه المفاهيم، وهو وعي غير مكتمل، لكن كان واضحاً أنه يمضي باتجاه التكامل.
(5) – الدولة المدنية، بدءً من القرن التاسع عشر، ومع الاصطدام بالتفوق الأوروبي، والتعرف على مؤسساته الديموقراطية، تبلورت رؤية إصلاحية خــــارج ” المؤسسة الدينية السلطانية ” حاولت توطين المفاهيم الغربية عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدة مع الشيخين محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي: إنّ السلطة السياسية في الإسلام سلطة مدنية، وإنّ الإسلام لا يعرف سلطة ثيوقراطية.
ولأننا مازلنا في إطار فكر التلفيق، وليس التوفيق والتوافق، فقد وجد بعض دعاة الدولة الدينية الأمر سهلاً للغاية فلجؤوا إلى تعبير الدولة المدنية، على أن تكون لها مرجعية إسلامية. ومثلهم مثل
من استخدموا هذا التعبير بدون ربطه بمرجعية معينة، ولكن لم يبذل الذين لجؤوا إليه كبديل عن تعبير الدولة الدينية جهداً لبلورته أو تقديم أي تأصيل له.
ولذلك تظل الأسئلة الأساسية التي يثيرها الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية بلا إجابة، ومنها: كيف يتم تجسيد المرجعية عملياً ونظامياً، ومن يعبر عنها وكيف؟
(6) – العلمانية، لم تتجاوز ” علمانية ” الإصلاحية الإسلامية إطار الدفاع عن مدنية السلطة والنظام السياسي من دون أن تصطدم بالدين. ونحن نسميها ” علمانية ” تجاوزاً لأنها ناهضت مبدأ السلطة الدينية، وأسقطت شرعيته، ونفته عن الإسلام، ولأنها قارعت الاستبداد الديني ورأت فيه أساساً مكينا لتوليد الاستبداد السياسي. أما إذا التفتنا إلى مضمونها الفعلي، فندرك أنها موقف سياسي خالٍ من أي محتوى فكري من نوع ذلك الذي أسس الفكرة العلمانية في أوروبا، حيث تم الدفاع عن دولة حديثة، حيادية إزاء الأيديولوجيات والعقائد، تستمد السلطة فيها شرعيتها من الرأي العام.
وهكذا، يبدو الخطاب الإسلامي موزعاً بين منطقين في إدراك مفهوم العلمانية. يروم أولهما اختزالها في مقولة ” الفصل بين الدين والدولة “، في حين ينادي الثانـي بـ ” علمانية إسلامية “، لا تقوم على إلغاء الدين وإقصائه، بقدر ما تتأسس على قاعدة التجربة التاريخية والإطار الأخلاقي للمجتمعات الإسلامية، مما يعني الاجتهاد في إعادة تكييف العقيدة مع ما تتطلبه المجتمعات الإسلامية من حاجة إلى: تأسيس النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ضوء إرادات الشعوب وصيانة حقوقها الأساسية.
لذلك، يطرح التوزع بين المنطقين أكثر من سؤال منهجي ومعرفي بخصوص تأصيل مفهوم العلمانية وتوطينه في المجال السياسي العربي، بل إنّ الاجتهاد الأكبر يعود إلى الحركات الإسلامية نفسها، فهي المطالبة، قبل غيرها، برفع اللبس عن مفهوم مفصلي في تشكُّل مجال سياسي مؤثث على التعددية، وحق الاختلاف، والتنافس، والتكافؤ في الفرص، وما إلى ذلك مما هو مندرج ضمن سقف الدولة المدنية.
(7) – الديمقراطية، وجد الإصلاحيون الدينيون، منذ القرن التاسع عشر، نوعاً من التوافق، في مجال المفاهيم السياسية الحديثة، ما بين الشورى والديموقراطية، حيث رأوا في الثانية الترجمة الحديثة للأولى، أو الأداة والآلية المناسبة لتطبيق مبدأ الشورى، ووسيلة فعالة للتعبير الواقعي عنه.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي عادت الفكرة القائلة: إنّ مرجعية الشريعة لا تتنافى مع الديموقراطية الإجرائية المعنية بتولّي الناس لأمورهم عن طريق الانتخاب، فعاد التواصل من جديد بين نظام الشورى والنظام الديموقراطي، مما يبشر بفاتحة عقد سياسي جديد للعرب يأخذ الشعب والأمة والجماعة مكانتهم المركزية والمقررة فيه. بالرغم من أنّ الديمقراطية ليست صندوق اقتراع فقط، وإنما ثقافة تقتضي التعددية والاعتراف بالآخر..
برامج التيارات الإسلامية المعاصرة
بداية يجدر بنا أن نميز بين الإسلام السياسي، بوصفه ظاهرة سياسية – دينية، وبين الإسلام كعقائد وعبادات وتراث ثقافي. إذ يمكن هنا الانطلاق من تعريف للإسلام السياسي على أنه اللجوء إلى مفردات الإسلام كدين للتعبير عن مشروع سياسي، على أنّ النقطة المحورية في الإسلام السياسي ربما كانت هي سعيه للوصول إلى السلطة، باعتبار أنّ ذلك هو الشرط الضروري لإقامة مشروعه.
أما تيار العنف فهو يتجسد في جماعات إسلامية مغلقة، مرجعيتهم الدينية تمنحهم يقيناً مطلقاً لا يجدونه في سواها، كما تمنحهم أيديولوجية مبسطة تحل كافة التناقضات حولهم، وتمنحهم شعوراً بالاستشهاد والتسامي والتعالي على الأوضاع الاجتماعية التي يعيشون على هامشها، وأخيراً تمنحهم مشروعية فيما يؤمنون به عداء عميق لما حولهم. ولعلَّ الإشكالية الأساسية بالنسبة لهذه الجماعات هي أن خصومتهم النهائية مع مؤسسات المجتمع تمتد إلى الواقع الاجتماعي كله فتجعلهم ينعزلون عنه.
وفي سياق بحثنا عن إشكالية الدولة في الفكر السياسي للتيارات الإسلامية، غير العنفية، المعاصرة، نجد من المفيد تناولها كما يلي:
(1) – الإسلام المستنير
مصطلح شائع منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان، يشير إلى تيار فكري يحاول أن يجمع بين الإسلام والعصر. والواقع أنّ الإسلام المستنير تيار ثقافي وجد في كل عصر، عبر تاريخ الإسلام الطويل، يشير إلى تفسير معين للنصوص، واختيار جماعي معين. وهو يمثل إحدى فرق العصر الحديث الكلامية والمذاهب الفقهية والتيارات الفلسفية، وهو قادر على أن يكون جسراً بين التيارات المتصارعة في عصرنا الحاضر، وقادر على المساهمة في الحد من الصراع بين الأخوة/الأعداء (العلمانيين، والسلفيين)، أنصار الدنيا وأنصار الدين، المتحررين والمحافظين.
(2) – النهضويون الإسلاميون الجدد
حدثت في البيئة المحيطة بالدول والمجتمعات والحركات تحولات كبرى جذرية منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، وقد وجدت الحركة الإسلامية نفسها أمام هذه التحولات الكبرى والتي تغير من علاقاتها ودورها. فأجرت بعضها مراجعة شاملة لمواقفها الفكرية والسياسية ورؤيتها لقضايا سياسية واجتماعية، مثل: الديموقراطية والتعددية السياسية والمرأة والأقليات وتطبيق الشريعة والحريات الشخصية.
وهكذا، كان علينا أن ننتظر ثمانينات القرن الماضي لنرى ملامح مراجعة للأفكار والبرامج باتجاه العودة إلى فكرة المشاركة والديموقراطية لدى بعض أطراف الإسلام السياسي، إذ أعيد الاعتبار مجدداً إلى: أولاً، فكرة الشورى ومعادلتها بالديموقراطية ومؤسساتها وآلياتها. وثانياً، وصل ما انقطع مع التربة الفكرية للإصلاحية الإسلامية بنفي فكرة الدولة الدينية. وثالثاً، إحياء فكرة الطابع المدني للسلطة في الإسلام، ومرجعية الأمة في الشأن العام، واحترام التنوع في الاجتماع السياسي.
ولم تقتصر مساحة هذه المراجعة على راشد الغنوشي وحركة النهضة التونسية، أو محمد سليم العوا ومحمد شحرور وأحمد الرمح..، بل فرضت نفسها على الإخوان المسلمين في مصر وسورية، وتعززت أكثر عند حركتي ” العدالة والتنمية ” في تركيا والمغرب.
ومن شأن هذه المراجعة وتواصلها أن تعكس، من جهة، هموم قطاع كبير من الرأي العام العربي الحريص على القيم الدينية، والمتمسك بها. وتعمل، من جهة ثانية، مع الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى في التوصل إلى الحلول المجدية، لإقامة نظم سياسية عربية تضمن المساواة والعدالة والحريات الفردية والعامة لجميع المواطنين.
وقد يكون هذا المدخل في استشراف اتجاه إعادة الحركة الإسلامية لإنتاج نفسها أكثر منطقية وصحة، فهي بحاجة إلى أن تبحث عن تعريف لنفسها يختلف عما كانت عليه طوال العقود الماضية، وهو تعريف يجب أن يكون مستمداً من رؤية لدورها وما تسعى إليه بالفعل، ومن حاجة مجتمعاتنا العربية إلى الانخراط في عصر العولمة بكل تأثيراته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
وفي الواقع، هناك ثلاث مسائل يركز عليها النهضويون الإسلاميون الجدد: أولاها، مصدر السلطة، حيث توصلوا إلى التفريق بين المرجعية العليا، والأخرى التدبيرية. فالمرجعية العليا تكون للشريعة، أما القضايا التدبيرية فيقولون إنّ المرجعية فيها للمجتمع. وثانيتها، طبيعة السلطة السياسية، يقولون إنها مدنية، بمعنى أنه لا تتوافر لها القداسة أو العصمة شأن السلطة الدينية، كما أنّ الناس هم الذين يشكلونها، وهم الذين يمارسون التفاوض والتنافس بالمشاركة فيها، وبتداولها، وبسن التشريعات البنائية، وليست التأسيسية، التي تنظّم ذلك التداول. وثالثتها، وظائف السلطة، إذ يقول الإصلاحيون الجدد إنها تتناول تدبير الشأن العام وإدارته بما يصلحه، ويصون الوجود الوطني والمصالح الوطنية، بعد أن يكون الاجتماع السياسي بالتفاوض وبالتنافس وبالمشاركة قد حددها، وحدد الطرق والوسائل الكفيلة بالوصول إليها.
(3) – أحزاب الوسط الإسلامي
شهدت الساحة السياسية العربية، خلال العقدين الماضيين، حضوراً مكثفاً لتيارات الوسط الإسلامي ذات الطابع السياسي، منها على سبيل المثال: حزب النهضة في تونس، الذي تأسس في عام 1981 تحت مسمى ” الاتجاه الإسلامي “، وحزب ” العدالة والتنمية ” في المغرب الذي يضم بداخله خليطاً من الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية التي تأسست عام 1967، وأعضاء من حركة ” الإصلاح والتجديد ” المغربية، وحزب الوسط الإسلامي الأردني الذي تأسس عام 2001، وحزب ” الوسط الجديد ” في مصر.
وثمة عوامل موضوعية تدفعنا نحو دراسة ظاهرة أحزاب الوسط الإسلامية، يمكن أن تساهم في ترسيخ تجربتها، وتكثيف حضورها السياسي في العالم العربي، وما قد يؤدي إليه ذلك من مصالحة تاريخية لإشكالية الدين والدولة، التي شغلت، ولا تزال، حيزاً مؤثراً في الفضاء العربي.
فمن جهة أولى، تعبر هذه الأحزاب عن درجة متقدمة من الوعي السياسي الإسلامي طالما افتقدته الساحة العربية منذ نشأة الدولة الوطنية، وهو الذي تعرض لقدر كبير من التشويه بفعل الصراع الضاري بين الدولة وتيارات العنف الديني الذي استمر قرابة عقود ثلاثة من القرن المنصرم، ما أثار الشكوك حول فرص ” إنضاج ” تجربة سياسية إسلامية مدنية. ومن جهة ثانية، تمثل هذه الأحزاب خروجاً عن التصنيف التقليدي لتيارات الإسلام السياسي بين معتدل وعنيف، كي تضيف معياراً جديداً للتصنيف يتمثل في الكفاءة السياسية، أي قدرة هذه التيارات على استيعاب مفاهيم الديموقراطية والعمل المدني، والتعاطي معها بعيداً من هيمنة الديني على ممارساتها السياسية. ذلك أنّ هذه الأحزاب، وإن كانت تتمتع بمرجعية دينية تحكم رؤيتها لذاتها وللآخرين، شأنها في ذلك شأن التيارات الإسلامية الأخرى، إلا أنها لا تنطلق في ممارستها السياسية من خلفية دينية، ولا تمثل المرجعية بالنسبة لها سوى ” حاضنة حضارية ” تتسع لجميع صنوف الاختلاف السياسي والديني داخل الوطن الواحد.
ومن جهة ثالثة، تقدم هذه الأحزاب رؤية متميزة لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، تمكنت خلالها من حل تلك الإشكالية التاريخية، التي طالما لازمت جميع تيارات الإسلام السياسي، وتجاوزت بها أطروحات العديد من التيارات الإسلامية، خصوصا في ما يتعلق بقضايا المواطنة والمرأة. ومن جهة رابعة، تطرح هذه الأحزاب مشروعا ” حداثيا ” للمجتمعات العربية، وهي بذلك تقدم حلاً قد يعتبر ” خلاصاً ” للإشكالية التي أرّقت الفكر الإسلامي طيلة القرن العشرين، ممثلة في كيفية العلاقة بين الدين والحداثة، وما تنطوي عليه من قضايا خلافية تتعلق بالهوية والذات الحضارية وشكل العلاقة مع الآخر.
ومن جهة أخيرة، تتمتع هذه الأحزاب بدرجة عالية من المرونة الفكرية، تسمح لها بتطوير أفكارها وآلياتها، وتجعلها في حالة سيولة دائمة واشتباك متجدد مع قضايا العصر، وذلك مقارنة بحركات إسلامية متقوقعة داخل جدران ” النص الديني “، دون القدرة على تجاوزها، مما أدى إلى جمودها السياسي والفكري، وقلل من فرص اندماجها في الحياة المدنية.
وواقع الأمر فإنه يمكن النظر لأحزاب وتيارات الوسط الإسلامي، باعتبارها وصلاً لمشروع النهضة العربية الذي طرحه الآباء المؤسسون: الطهطاوي والتونسي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي، وتم قطعه منذ ثلاثينيات القرن الماضي بفعل الأفكار والمشاريع التي طرحتها الأحزاب والتيارات الراديكالية في صياغاتها الماركسية والقومية والدينية.
(*) – محاضرة قدمتها في إطار ندوة دولية حول ” الحركات الإسلامية والمجال السياسي في المغرب والبلاد العربية ” بدعوة من ” مركز الدراسات الدستورية والسياسية ” في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – جامعة القاضي عياض – مراكش – المغرب، بمساهمة من مؤسسة ” كونراد أديناور “، خلال يومي 21 و 22 يونيو/حزيران 2007.
المصدر: سوريا المستقبل