لا يمكن الحديث عن عودة نشاط تنظيم “داعش” في سورية من دون التفكير بالتبعات التي تحملها على الواقع والمعطيات الحالية، سياسياً وعسكرياً، لا سيما أن حسابات الأطراف المنخرطة في الحرب السورية أخذت منحى مختلفاً منذ الإعلان عن هزيمة “داعش” العام الماضي. وكذلك كانت حسابات اللاعبين الدوليين المتنفذين في الملف السوري، والذين تشكل لهم المناطق التي تم طرد التنظيم منها جغرافية استراتيجية، كل حسب رؤيته والمكاسب التي يريد تحقيقها من هذه الحرب التي لا تزال مستمرة منذ تسعة أعوام.
في الأيام الأخيرة من العام الماضي، تبيّن للولايات المتحدة وحليفتها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، أنهما استعجلتا بإعلان الانتصار على “داعش” في سورية، بعد هزيمته عند آخر جيب له في الباغوز، آواخر مارس/ آذار 2019. وشهد شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي إعلان الجنرال روبرت وايت، قائد قوة المهام المشتركة لعملية “العزم الصلب” التي يقودها التحالف الدولي لهزيمة “داعش” في سورية والعراق، عن استئناف واشنطن و”قسد” عملياتهما ضد التنظيم بهدف هزيمته. وسبق وايت في الكشف عن استئناف الولايات المتحدة حربها ضد التنظيم، إعلان وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر عن بقاء قوات بلاده في سورية، رابطاً انسحابها بهزيمة “داعش” بالكامل، إذ عارضت الإدارة الأميركية، لا سيما البنتاغون، قرار الرئيس دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية من سورية في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، على خلفية شن تركيا عملية عسكرية في شرق البلاد ضد “قسد”.
ومنذ الإعلان عن استئناف الحرب ضد “داعش”، كان التنظيم كذلك يزداد نشاطاً بشكل تدريجي بعد فترة ركود أعقبت أحداث الباغوز، إلى أن وصل اليوم لتنظيم تحركاته بشكل واضح في الصحراء السورية. ويبدو أن عملية “الصحراء البيضاء”، التي أطلقتها روسيا في أغسطس/ آب الماضي بعد مقتل أحد ضباطها بعبوة ناسفة، شرقي دير الزور، لم تسفر عن تقدم واضح في مكافحة خلايا التنظيم في البادية، ولم تفلح كذلك جهودها في دعم مليشيا “القدس” الفلسطينية، ومجموعات من مليشيا “الدفاع الوطني”، لتكون رأس حربة في مواجهة خلايا “داعش” المتحصنة في تفاصيل البادية المعقدة والصعبة. عموماً، فإن البادية، التي تتقاسمها سبع محافظات، هي الرقة ودير الزور وحماة وحمص وحلب وريف دمشق والسويداء، لن يكون من السهل على الأطراف المنتشرة فيها التنبؤ بمصير قواتها لدى إرسالها إلى هناك، أو وجودها فيها أساساً. فعلى الرغم من تمركز خلايا التنظيم في جبال تدمر ومواضع في بادية السويداء وريف دمشق، إلا أن باستطاعتها الوصول إلى المكان الذي تريده من مساحة تلك البادية الشاسعة. كما ستكون الأسئلة مطروحة حول حسابات الأطراف المتنازعة على شرق البلاد والبادية، المليئة بالثروات النفطية والمعدنية، كل بما يخدم تثبيت تمركزه في البادية بمبرر عودة التنظيم.
أهداف النظام وحلفائه
على الرغم من تمدد النظام السوري في البادية بشكل واسع بعد انحسار “داعش”، لا سيما في ريف دير الزور الغربي ومحيط تدمر وجنوبي الرقة، إلا أنه لا يزال يسعى للاستحواذ على مزيد من المساحات، وبالأخص في الريف الشرقي من دير الزور، حيث حقول النفط الأكثر غزارة وإنتاجاً، والواقعة تحت سيطرة “قسد” والقوات الأميركية. ويجد النظام في عودة التنظيم ذريعة لتوسيع نشاطاته شرقي البلاد. غير أن رغبته تصطدم بالخسائر التي تتلقاها قواته ومجموعات المليشيات التي تسانده هناك.
أما موسكو، فمع تضاؤل آمالها في الاستحواذ على مواقع أكثر استراتيجية في الحسكة، الغنية بمنابع النفط، يزيد اهتمامها بتوسيع سيطرتها قرب دير الزور والرقة بعد تمددها الواسع في بادية حمص، أي في محيط مدينة تدمر، حيث حقول الفوسفات والمعادن والغاز. إلا أن روسيا لا تزال تراهن على قدرة النظام والمليشيات التي تدعمها على إحداث مزيد من التغيرات على الأرض، لجهة السيطرة على مواقع تقع تحت سيطرة “قسد” شرقي الفرات. كما تجعل من منافسة الوجود الأميركي استراتيجية هامة، لتحافظ على نوع من توازن القوى على الأرض الذي ينعكس في السياسة وعلى طاولة المفاوضات حيال الملف السوري بين واشنطن وموسكو. وعمد الروس أخيراً لتأطير حربهم ضد “داعش” في شرق سورية وجدولتها، من خلال عملية “الصحراء البيضاء”، ربما لتكون فعلاً مقابلة لعملية “العزم الصلب” الأميركية، في سبيل تبرير وجودهم وزيادة توسعهم في المنطقة.
من جهتها، تستحوذ إيران على نقاط حيوية في دير الزور، بما فيها حقول نفطية، وأنشأت بشكل تدريجي قواعد عسكرية لها ولمليشياتها في المنطقة، ولا سيما في البوكمال ومحيطها، وهي تسعى دائماً لتدعيم تلك القواعد عبر تعزيز دفاعاتها، على الرغم من تعرض تلك القواعد للقصف الدائم من قبل طيران التحالف وإسرائيل. وربما يكون لتعزيز حضور إيران، ثقافياً واقتصادياً، دور في الاستبسال للحفاظ على بقاء المليشيات هناك، التي باتت أخيراً تنشط في نشر المذهب الشيعي في المدارس والمساجد وأوساط الناس. إلا أن هدفها الأكبر هو تأمين “الممر” الذي تسعى لإنشائه، من خلال طريق طهران-بيروت مروراً بالعراق وسورية، ولا يزال “داعش” حجتها للبقاء عند الحدود السورية العراقية وضمن نقاط في الصحراء لتحقيق هذا الهدف، على الرغم من أن الولايات المتحدة أنشأت قاعدة التنف عند مثلث الحدود العراقية – الأرنية – السورية، والتي باتت أقوى قواعد التحالف لتقطع عليها هذا الطريق.
الدور الأميركي و”قسد”
من الانسحاب الذي يريده ترامب إلى “البقاء لأجيال”، تنعكس خلافات الإدارة الأميركية حول مسألة البقاء في سورية. ويبدو أن كلمة القيادة العسكرية الأميركية ووزارة الدفاع أقوى من تمنيات ترامب، الذي أعلن الانسحاب مرتين من دون التطبيق الفعلي. وفي وقت سابق من هذا الشهر، حسم قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال كينيث ماكنزي الجدل حول استمرار الولايات المتحدة في حربها ضد “داعش” في سورية والعراق، مشيراً لوجود أكثر من عشرة آلاف عنصر تابع للتنظيم، مؤكداً أن معركتهم ضده “قد تستمر لأجيال”.
ويتفق حلفاء واشنطن الغربيون والمنخرطون معها في التحالف في الحرب ضد “داعش” على الاستمرار بمكافحة التنظيم، على الرغم من إعلان الانتصار عليه قبل عام ونصف العام، وهذا ما تمخض عنه آخر اجتماع “افتراضي” عقده وزراء خارجية المجموعة المصغّرة للتحالف الدولي لهزيمة “داعش”، في الرابع من يونيو/ حزيران الماضي. وأخيراً دفعت واشنطن بمزيد من التعزيزات، من بينها عربات ومعدات متطورة، يلمح المسؤولون العسكريون الأميركيون إلى أنها تأتي في إطار زيادة تدعيم القوات، في ظل عودة ظهور “داعش” مجدداً، إلا أنها في الواقع تهدف لمواجهة النظام والمليشيات التي تدعمها روسيا وإيران، لا سيما أن تلك التعزيزات توجهت بجزء كبير منها إلى حقول النفط على الضفة الشرقية من نهر الفرات خشية تقدم تلك المليشيات إليها.
وبالنسبة لـ”قسد”، فمنذ إعلان ترامب الانسحاب (غير المنفذ) من سورية، وشرق الفرات تحديداً بعد أيام من انطلاق العملية العسكرية التركية “نبع السلام”، دقت “قوات سورية الديمقراطية”، التي يقودها الأكراد بشكل رئيسي، ناقوس الخطر، لجهة عدم ضمان التعهدات الأميركية بحماية الأكراد من تركيا. فعلى الرغم من تراجع ترامب، بضغط من العسكريين، عن الانسحاب الكامل، إلا أن الضوء الأميركي الأخضر لمحه الأكراد عندما أعطي لتركيا لتسيطر على مساحات واسعة شرقي الفرات كانت لسنوات تحت سلطة “الإدارة الذاتية” الكردية. وعلى اعتبار أن الأكراد يُعتبرون شركاء واشنطن وحلفائها الغربيين لمحاربة “داعش” في سورية، فإن “قسد” من مصلحتها المحافظة على هذه الشراكة لضمان بقاء الأميركيين إلى جانبها، وهذا سيؤمنه ظهور التنظيم من جديد، واستمرار الحرب ضده.
المصدر: العربي الجديد