وجد السوريون أنفسهم في تركيا -مجال الدراسة الحالية- أمام تحديات مختلفة، أولها أن تركيا ليست دولة لجوء، تقدّم خدماتها، كما دول اللجوء الأوروبية الأخرى، بدءًا من تعلّم اللغة حتى عملية الاندماج الكامل، وانتهاءً بترتيب شروط حياتهم كمنحهم إقامة قد تدوم عقودًا في هذا البلد. توزع السوريون على ولايات تركية مختلفة، وإن كان وجودهم في مدينة إسطنبول هو الأكثر. واختلفت شروط حياتهم عمومًا بين ولاية تركية وأخرى، استنادًا إلى أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية. وبات على السوريين أن يجدوا سبل الاندماج في المجتمع التركي الحاضن، ترافقًا مع بعض السياسات التركية المعنية في هذا الشأن. وتباينت حياة السوريين، بتفاصيلها كافة، وسط هذه المتغيرات وغيرها، واختلفت اتجاهاتهم ومواقفهم من الحياة والواقع والمستقبل.
واستنادًا إلى ما سبق، تطلعت هذه الدراسة إلى البحث في الآتي:
1- تقديم تشخيص وتحليل شبه شامل لواقع اللجوء السوري في تركيا.
2- قياس بعض المؤشرات المرتبطة باندماج السوريين في تركيا.
3- تقديم رؤية للوجود السوري في تركيا.
ولتحقيق أهداف الدراسة، اعتمدت على أدوات بحثية عدة:
1- مراجعة السياسات التركية الخاصة بالمؤشرات.
2- دراسة مكتبية تحليلية للإحصاءات وللدراسات السابقة والتقارير البحثية السورية والتركية والدولية الخاصة بمحاور الدراسة (التعليم والصحة والعمل).
3- زيارة المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، للحصول على البيانات الرسمية المتوفرة حول السوريين في تركيا، وحول تلك المؤشرات بشكل خاص، وآراء تلك الجهات.
4- عقد ثلاث مجموعات نقاش مكثفة (فوكوس كروب) حول العمل والتعليم والصحة.
5- تعزيز الدراسة بتنفيذ استبانة إلكترونية عن السوريين في تركيا، تتعلق بواقع موضوعات الدراسة الثلاث (العمل والتعليم والصحة) التي يرنون إليها في هذه المؤشرات لتحقيق عملية الاندماج الاجتماعي. وقد بلغت عيّنة الدراسة في الاستبانة الميدانية 1184 مفردة، توزعت على الولايات التركية المختلفة.
جاءت الدراسة في ثمانية فصول:
الفصل الأول تضمن الأوضاع القانونية للاجئين السوريين في تركيا، وأعدادهم وتوزعهم في المدن التركية
تبيّن أن تركيا كانت قد وقّعت سابقًا على “اتفاقية جنيف” عام 1951 المتعلقة باللاجئين، إلا أنها تحفظت على بند “القيود الجغرافية” في الاتفاقية، ما يعني أن تركيا لا تعطي صفة “اللاجئ” القانونية لمن قدم إلى أرضها من غير الأوروبيين. وعليه، لم تستقبل تركيا السوريين بصفة “لاجئين”، إنما تم توفير وضعية “الحماية المؤقتة” في تركيا، استنادًا إلى المادة 91 من قانون الأجانب والحماية الدولية المرقم 6458، والصادر في 4 نيسان/ أبريل 2013، إضافة إلى تشريعات نظام الحماية المؤقتة المرقم 2014/6883 الصادر في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، استنادًا إلى المادة 91 من قانون الأجانب والحماية الدولية.
أما بالنسبة إلى أعداد السوريين في تركيا -بحسب آخر تحديث لوزارة الداخلية التركية والمديرية العامة لإدارة الهجرة، في 8 أيار/ مايو 2020- فقد بلغ عددهم 3.759.008، وهم المسجلون في قيود دائرة الهجرة وشعبة الأجانب في الولايات التركية.
يتوزع السوريون على الولايات الـ (81) التركية، وتختلف أعدادهم، بحسب كل ولاية، تبعًا للبيئة الاجتماعية الحاضنة، أو للبيئة التي قدموا منها، أو لتوفر فرص عمل تناسب كفاءاتهم وقدراتهم.
الفصل الثاني: سياسة تركيا تجاه الصراع واللجوء السوري
قدّمت تركيا في هذه المدة الطويلة من الثورة السورية 2011 والحرب التي تلتها، الدعمَ للمعارضة السورية، على مستويات وأبعاد عدة، منها الإعلامي والسياسي والإغاثي واللوجستي، وحتى العسكري. فقد استضافت تركيا معظم القيادات السياسية للمعارضة السورية، وأغلب مؤتمرات المعارضة.
أما سياسة المعارضة التركية، فقد استغلت القضية الإنسانية للاجئين في تركيا، في الصراع السياسي مع الحكومة التركية المتمثلة بحزب العدالة والتنمية، حيث تبنت المعارضة التركية المتمثلة في حزب الشعب الجمهوري، وحزب “الجيد” IYI Partasi، سياسة مضادة للاجئين.
الفصل الثالث: موقف المجتمع التركي تجاه اللجوء السوري في تركيا
في البداية، كان موقف المجتمع التركي تجاه السوريين إيجابيًا، بناءً على فهمهم لواجب كرم الضيافة وحبّ مساعدة الآخر، لكن ومع تزايد أعداد اللاجئين المستمر وطول مدة إقامتهم؛ تغيّر هذا الموقف، وظهرت مواقف كراهية للسوريين ونفور من وجودهم على الأراضي التركية، وبيّنت نتائج الدراسات التركية أن المجتمع التركي ازداد بعدًا عن السوريين، وأن هناك فجوة كبيرة بين المجتمعين السوري والتركي، وحالة عدم فهم من كلا الطرفين للآخر. وقد علل المشاركون في جلسات النقاش ذلك بقولهم إن المجتمع التركي عمومًا بدأ ينفر من السوريين، بسبب بعض التصرفات الفردية من السوريين، بعد أن عمل الإعلام على تضخيمها وعملت المعارضة التركية على ترويجها واستغلالها بأبشع الصور، وأصبح اللاجئ السوري مادة أساسية في التجاذبات السياسية والدعاية الانتخابية. وقد انعكس ذلك سلبًا على نظرة المواطن التركي إلى السوريين عامة.
أما في ما يتعلق بوصف السوريين لحياتهم في تركيا، وبالتحديد مع المؤسسات الحكومية التي يتعاملون معها، فقد تبيّن أن الغالبية العظمى من السوريين غير راضين عن أداء كل من موظفي شعبة الأجانب وموظفي إدارة الهجرة، ووصفت هذا التعامل بأنه غير جيد، مقابل نسبة ضئيلة لم تتجاوز 12.5 % قالت عكس ذلك. حتى إن كثيرًا من المشاركين في جلسات النقاش المركز تحدثوا عن معاناتهم الكبيرة، وطريقة التعامل السيئة التي يلاقونها في هاتين الجهتين، من تمييز عنصري وصعوبة الحصول على موعد، وطول مدة الانتظار لهذا الموعد بعد الحصول عليه، وساعات الانتظار الطويلة أمام أبواب هذه الدوائر، وقد قال 85 % من المشاركين في استطلاع الرأي إنهم يجدون صعوبات في المعاملات القانونية الخاصة بهم، بدرجات متفاوتة، مقابل 13 % فقط قالوا إنهم لم يجدوا مثل هذه الصعوبات.
وعلى النقيض تمامًا، جاءت النتيجة مغايرة عند وصف السوريين لتعامل موظفي المؤسسات الرسمية التركية، “باستثناء دائرة الهجرة وشعبة الأجانب”، فقد قال 9 % فقط إن تعاملهم غير جيد، مقابل 46 % قالوا إن التعامل جيد بدرجة متوسطة، و16 % قالوا إنه تعامل جيد بدرجة عالية، وقد عزا أحد المشاركين في جلسات النقاش ذلك الأمر إلى أن هذه المؤسسات بمعظمها خدمية، وتقدم خدماتها للسوريين والأتراك على حد سواء، على عكس المؤسستين السابقتين اللتين لا تتعاملان إلا مع الأجانب، ومن ضمنهم السوريون.
الفصل الرابع- السوريون وسوق العمل
تبين أن أكثر الصعوبات التي يعانيها السوريون في مجال العمل في تركيا تتمثل في عدم المساواة في الأجور مع العمال الأتراك، وعدم وجود إطار قانوني ينظم عمل السوريين في تركيا. فقد صرح أكثر من 90 % من أفراد العينة بأن هاتين الصعوبتين هما من أهم الصعوبات التي تواجههم في العمل، وفي إطار المقابلات المعمقة التي أجريناها، أكد بعض المستثمرين والعمال السوريين أن أجر العامل السوري قد يصل إلى أقل من ثُلث أجر العامل التركي، ويتعرض العمال السوريون لكثير من الاستغلال في هذا الأمر، حتى إن بعضهم قد لا يحصل على هذا الأجر القليل أصلًا، في ظل عدم وجود إطار قانوني ينظم عمل السوريين.
ومن الصعوبات أيضًا، عدم وجود ضمان صحي، حيث إن عدم وجود تأمين يعني بالضرورة عدم وجود تأمين صحي، وقد قال 52 % من أفراد العينة إن هذه الصعوبة تواجههم بشكل مرتفع، مقابل 25 % قالوا إنهم يعدّونها صعوبة من الدرجة المتوسطة. ومن الصعوبات، عدم الحصول على فرصة عمل مناسبة، وعدم وجود عمل في التخصص المهني السابق.
ويبقى حاجز اللغة حاضرًا في كل مجال، فكما كان عائقًا مهمًا أمام اندماج السوريين في المجتمع التركي، كان كذلك من أهم الصعوبات التي تواجه السوريين في سوق العمل. فهو لدى 73 % من السوريين عائقٌ مهم في سبيل الحصول على فرصة عمل مناسبة. حتى إن هذا الأمر يتسبب في عدم فهم العامل السوري بعض الطلبات التي يتلقاها، فيؤديها بشكل غير مناسب، فينعكس ذلك سلبًا على هذا العامل.
أما عن بقية الصعوبات التي يعانيها السوريون في سوق العمل، وقد حازت درجات أقل من حيث ترتيبها، فقد جاء قلة الفرص في سوق العمل التركية، وعدم الاستقرار في سوق العمل من الصعوبات التي يعانيها بدرجة مرتفعة ما يقرب من ثلث أفراد العينة.
وتُعدّ سوء معاملة ربّ العمل إحدى الصعوبات التي يعانيها العامل السوري، وقد ذكرنا بعض أصناف سوء المعاملة هذه، من عدم إعطاء الأجور الحقيقية المتفق عليها، وهي بالأصل أقل من الحد الأدنى الذي تضعه الحكومة التركية كأجر للعمال، إضافة إلى طول ساعات العمل، والتلفظ بألفاظ نابية بحق العمال السوريين، والتمييز العنصري والتنمر الذي يتعرضون له، خصوصًا في أثناء حصول حادثةٍ سلبيةٍ لها علاقة بالسوريين، ويسلط عليها الضوء بشكل كبير من الإعلام المعارض. وتُعدّ المنافسة مع العمال الأتراك إحدى الصعوبات في سوق العمل، لا بل إن هذا الأمر يعرّض بعض العمال السوريين لتنمّر بعض زملائهم الأتراك الذين يعتبرون العمال السوريين سببًا في نقص مرتباتهم، أو عدم حصولهم على عمل مناسب.
الفصل الخامس: تعليم السوريين في تركيا
اتّبعت الحكومة التركية منذ عام 2017 سياسة دمج السوريين في التعليم الحكومي، وبدأت بإلغاء مراكز التعليم المؤقت المخصصة للسوريين، وصولًا إلى عام 2020 الذي من المقرر فيه إلغاء هذه المراكز بالكامل. ووفقًا لبيانات (يونيسف)، يُلاحظ أن ما يقرب من 430 ألف طفل لا يزالون خارج المدرسة في عام 2019. ويُـشير هذا الوضع إلى أن الحاجة إلى التعليم يجب أن تظهر كمشكلة مهمة، مثلها مثل الاحتياجات الأساسية كسلامة الحياة والمأوى والطعام والملابس.
وقد تبين أن هناك مجموعة من الصعوبات تواجه الطلاب السوريين، يمكننا تلخيصها في النقاط التالية:
تبيّن أن الطالب السوري يعاني صعوبةً كبيرة في فهم المنهاج باللغة التركية، وهذا الأمر موجود لدى 95 % من أفراد العينة، حتى إن بعض أولياء الأمور تحدثوا، في جلسات النقاش المركز، عن أبنائهم الذين يدرسون في المدارس التركية، وقالوا إنهم يعودون في كثير من الأحيان وهم يبكون، فهم لا يستطيعون فهم المنهاج ولا الفهم على أساتذتهم ولا حتى فهم زملائهم الأتراك، وهذا جعل المدرسة لدى كثير من السوريين جحيمًا لا يطاق، وأدى إلى تسرّب نسبة كبيرة خارج التعليم، خصوصًا لدى العوائل التي لا يملك الوالدان فيها مؤهلات علمية كافية، ولا يملكون المال الكافي لوضع أستاذ خاص لتعليم أبنائهم.
صعوبة الفهم هذه أدّت إلى سلوك آخر، لدى بعض الأساتذة الأتراك، تجاه الطلبة السوريين، فيه عنصرية تجاه الطلبة السوريين، وتحيز إلى جهة الطلبة الأتراك، بحسب ما ورد في جلسات النقاش، حيث لا توجد متابعة من هؤلاء الأساتذة للطلبة السوريين، ولا محاولة لإشراكهم في الدرس. وقد أكد نحو 90 % من أفراد عينة دراستنا أن من بين أهم الصعوبات التي يعانيها الطلبة السوريون تحيّز بعض المعلمين الأتراك إلى الطلبة الأتراك. لكنّ أحد المشرفين السوريين في المدارس التركية قال، في إحدى المقابلات المعمقة، إن هذا الحكم لا يمكن تعميمه على جميع الأساتذة، فهنالك أساتذة أتراك لديهم حس عالٍ بالمسؤولية، ويحاولون بكل الوسائل إيصال المعلومات للطلبة السوريين.
ويعاني بعض الطلبة السوريين حالة كراهية من بعض الطلاب الأتراك، وهو أمرٌ ربما يعود أيضًا لصعوبة التواصل بين الطلبة السوريين والأتراك، بسبب حاجز اللغة، وربما يعود لمواقف عنصرية موجودة في أسر هؤلاء الطلبة، تنعكس سلوكات مسيئة لبعض الطلبة السوريين.
ومن الصعوبات التي يعانيها السوريون صعوبة معادلة الشهادات العلمية، فهي تستغرق وقتًا طويلًا يمتد أحيانًا سنوات، وقد قال 47 % من أفراد العينة إن هذه الصعوبة موجودة بنسبة مرتفعة. أما عن تكاليف الدراسة، فيبدو أنها مقبولة نوعًا ما في المدارس، فقد أفاد 14 % من أفراد العينة بأنهم لا يجدون ارتفاعًا في تكاليف الدراسة، و33 % قالوا إن هذه الصعوبة موجودة، ولكن بنسبة منخفضة، وقال 16 % إنها موجودة بدرجة عالية.
من حيث الدراسة في الجامعات، يبدو أن تكاليفها تشكل عائقًا مهمًا أمام بعض الطلبة الجامعيين؛ فقد أفاد 30 % من أفراد العينة بأنهم يجدون صعوبة بدرجة مرتفعة، مقابل 9 % فقط قالوا إنهم لا يجدون أن تكاليف الدراسة الجامعية مرتفعة، وبالنسبة إلى محتوى المناهج التركية من اللغات الأجنبية، صرّح نحو 88 % من أفراد العيّنة بأنهم يجدون ضعفًا في تعليم اللغات الأجنبية (عربي، إنكليزي، فرنسي).
وأخيرًا بخصوص توفر أماكن للطلاب السوريين في مقاعد الدراسة، سواء المدرسية أو الجامعية، فقد أفاد 13 % من أفراد العينة بأن المقاعد متوفرة، ولا مشكلة في ذلك، مقابل 31 % يرون أن هذه المشكلة موجودة لكن بدرجة منخفضة، و19 % يرون أن هذه المشكلة موجودة بدرجة مرتفعة. ولعل ذلك عائد إلى تجمع السوريين في أماكن محددة، حيث يزيد الضغط على مدارس بعينها، ولا نجد مثل هذا الأمر في الأماكن التي يكون عدد السوريين فيها قليلًا.
الفصل السادس: الخدمات الصحية للسوريين في تركيا
تبيّن أن أهم مشكلتين تواجهان السوريين في المجال الصحي هما مشكلات التواصل بسبب اللغة، ومشكلات قانونية تتعلق بكيملك المدينة (الهوية)، حيث كانت مشكلة اللغة عائقًا أساسيًا لدى نحو 60 % من أفراد عينة الدراسة، بينما لم تكن مشكلة على الإطلاق لدى 4 % من أفراد العيّنة. ولعل ارتفاع النسبة هنا عائد إلى أن السوري، وإن هو تعلم اللغة التركية تعلّمًا يسيّر به أمور حياته، لا يستطيع أن يعبّر عن حاله ويصف ما به، في القطاع الصحي، لأن لهذا القطاع مفرداته وتعابيره الخاصة.
أما بالنسبة إلى المشكلات القانونية المتعلقة بكيملك المدينة، فقد كانت عائقًا كبيرًا لدى 46 % من أفراد العيّنة، بينما لم تكن عائقًا لدى 7 % من السوريين. حيث إن اللاجئ السوري يحاول أن يسكن في الولاية التي يجد فيها عملًا، وبذلك يُضطر إلى السكن في ولاية مختلفة عن الولاية التي استخرج منها أوراقه الرسمية. وهذا ينعكس -بكل تأكيد- على الجانب الصحي؛ فالمشافي والمراكز الصحية التركية لا تستقبل السوريين إلا الحاملين كيملك الولاية. لذلك جاء الارتفاع في النسبة هنا، علمًا أن 37 % من أفراد العينة أقروا أيضًا بوجود هذه المشكلة بدرجة متوسطة، و10 % قالوا إنها موجودة لكن بدرجة منخفضة. وقد أشار المشاركون في جلسات النقاش إلى أن مجانية العلاج للسوريين نعمةٌ كبيرةٌ، لا يشعر بها إلا من حصل على الجنسية التركية من السوريين، إذ يجب على المواطن المجنّس دفع نسبة معينة من قيمة المعاينة والعلاج.
أما عن طريقة التعامل مع المرضى السوريين، فقد أفاد نحو 20 % من السوريين أفراد العينة بأن هناك حالة عدم اهتمام بالمرضى السوريين، بنسبة مرتفعة، بينما قال 24 % بعكس ذلك. وجاءت نسبة من قال بوجود عدم الاهتمام بدرجة متوسطة نحو 34 %. وقد عزا بعض المشاركين في جلسات النقاش المركّز ذلك إلى كون كثير من السوريين لا يجيدون اللغة التركية، فيسبب ذلك إهمالًا من قبل الطبيب لحالة المريض السوري، وعلى الرغم من قيام وزارة الصحة التركية بتعيين العديد من المترجمين السوريين في المشافي التركية، فإن كثيرًا من المرضى السوريين يعانون مسألة عدم معرفة اللغة، وذلك لعدم كفاية الأعداد المعينة لحاجات المرضى السوريين. وهناك سبب آخر، يمكن أن يكون له دور في حالة الإهمال التي يتعرض لها السوريون، يعود إلى أن وزارة الصحة حددت المشافي التي يستطيع السوريون تلقي الرعاية فيها في كل ولاية، وقد أدى هذا الأمر إلى زيادة عدد المراجعين السوريين على هذه المشافي، فازداد الإهمال. ومن الأسباب أيضًا طريقة التعامل غير اللائقة مع المرضى السوريين، من قبل الكادر الطبي، في بعض المراكز الصحية، فقد قال 21 % إن هناك تعاملًا غير لائق يتعرضون له بدرجة مرتفعة، وقال 35 % إنهم تعرضوا لذلك بدرجة متوسطة، وقال 20 % من أفراد العيّنة عكس ذلك.
أما بالنسبة إلى مشكلة عدم توفر المراكز والعيادات الطبية السورية في محيط سكن أفراد عينة الدراسة، فلم تكن ذات تأثير مرتفع إلا عند نحو 20 % من السوريين، وكانت ذات تأثير متوسط لدى النسبة نفسها أيضًا. بالمقابل لم يكن هذا الأمر يشكل عائقًا أمام 35 % من السوريين أفراد العينة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى قلة العيادات، فقد كان ذلك عائقًا ومشكلة بدرجة مرتفعة لدى 22 % من أفراد العينة، وبدرجة متوسطة لدى 25 %، ولم يكن هذا الأمر مشكلة لدى 18 % من أفراد العينة.
وعلى الرغم من ذلك، نجد أن كثيرًا من السوريين يلجؤون إلى العيادات السورية والأطباء السوريين، وقد وصلت نسبة من يذهب إلى العيادات والأطباء السوريين أكثر من 56 %، وذلك بنسبة مرتفعة ومتوسطة. وقد عزا بعض المشاركين في جلسات النقاش المركز هذا الأمر إلى سهولة التواصل مع الطبيب السوري واهتمامه بحالة المرضى أكثر من الطبيب التركي. أما عن كلفة المعاينة في العيادات السورية، فقد قال 26 % من أفراد العيّنة إنها مرتفعة، مقابل 32 % قالوا إنها متوسطة، وقال 20 % إنها ليست مرتفعة.
الفصل السابع: اندماج السوريين في المجتمع التركي
بعد تسع سنوات من وجود السوريين في تركيا؛ ما يزال هنالك عدم وضوح تام، بخصوص مشاريع دعم الاندماج وتعلم اللغة ومتابعتها مع السوريين، وعلى الرغم من توفر كثير من معاهد اللغة الرسمية، مثل معاهد (ismek) فإن العديد منها يرفض تسجيل السوريين، ولا تُعرف الأسباب أهي ناتجة عن وجود قرارات وقوانين رسمية، أم أنها ناتجة عن أهواء الموظفين فيها، وكذلك لا توجد متابعة من قبل الحكومة ودوائر الهجرة، للتعرف إلى تطور حالة تعلم اللغة، على نحو مشابه لما هو موجود في نظام الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن عدد السوريين الذين استطاعوا تعلم اللغة التركية يُعدّ مقبولًا إلى حد ما، سواء عبر معاهد لغة خاصة مدفوعة الأجر، أو من خلال العمل لدى مواطنين أتراك، أو في المدراس.
ومن الصعوبات التي تواجه السوريين في الاندماج الاقتصادي في تركيا القوانينُ المتعلقة بتصريح العمل، فعلى الرغم من أنها واضحة بالنسبة إلى السوريين، فإن هناك مشكلة حقيقية تكمن في أن عملية استصدار التصريح تقع على عاتق صاحب العمل نفسه لا على العاملين، وهذه المشكلة ليست خاصة بالسوريين وحدهم، حيث إن كثيرًا من المواطنين الأتراك أيضًا يعملون وفق تلك الظروف، بدون وجود أي حقوق أو ضمانات وتصريح عمل، والسبب في ذلك صاحب العمل الذي يسعى للتهرب من الضرائب ودفع الأجور ومنح الحقوق للعاملين وفق القانون، كالحد الأدنى للرواتب وعدد ساعات العمل والتأمين الصحي وغيرها..
وأظهرت الأبحاث والدراسات أن لدى المجتمع التركي مسافة اجتماعية كبيرة وميلًا جديًا إلى تجنّب السوريين واتقائهم، ولكن الوضع لدى السوريين على العكس من ذلك تمامًا، حيث يعتقد السوريون أنهم تكيفوا بالفعل مع المجتمع التركي، في حين أن المجتمع التركي قلق جدًا من هذه المسألة. وقد عملت الدراما والإنتاج الإعلامي التركي، في الفترة الماضية، على تقديم صورة سلبية للاجئ السوري الذي قُدّم إلى الأتراك على أنه شخص ريفي فقير يمارس التسول لقضاء متطلبات يومه. وهذا الأمر يتنافى مع الواقع، حيث إن بعض السوريين تمكنوا من الحصول على وظائف ذات رواتب مرتفعة، إضافة إلى أن بعضهم قام بتوظيف أمواله في شركات وأعمال تجارية. وقد أفاد تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي السوري بأن تركيا شهدت منذ 2011 تسجيل أكثر من 6500 شركة ونشاط اقتصادي، أنشأها أو أسهم في إنشائها سوريون.
لم تولِ المؤسسات السورية الموجودة في تركيا، مثل المجلس الوطني السوري، وبعده ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، وحكومته المؤقتة، أهميةً تذكر لمواجهة مشكلات الوجود السوري الكبير في تركيا، أو في دول الجوار الأخرى، أو في المهاجر الأخرى، ولم يكن لها نشاط إعلامي منظم موجه إلى الشارع التركي بمعلومات وإيضاحات مفيدة، بشأن حقيقة الوجود السوري في تركيا، ولم تُقم علاقات عامة واسعة، على نحو عريض ومؤثر، مع مختلف مفاصل الدولة والمجتمع والأحزاب والمؤسسات التمثيلية ومنظمات قطاع الأعمال وغرف التجارة والصناعة والمؤسسات الإعلامية والنقابات وغيرها، بل حصرت علاقاتها مع عدد محدود من القيادات في الدولة، وخصوصًا ممن ينتمون إلى حزب “العدالة والتنمية”، وشكّل ذلك انطباعًا بأن المعارضة السورية والسوريين في تركيا هم من “مخصصات” حزب العدالة والتنمية، أي إنها وضعت بيضها في سلة واحدة في بلد ديمقراطي، وأكسب ذلك السوريين عداءَ أحزاب المعارضة، ووضع عبئًا على حزب العدالة والتنمية، وتحمّل تبعات وجودهم وحده.
الفصل الثامن: السوريون في تركيا وتطلعات العودة إلى سورية
حاولت الدراسة أن تعرف درجة تفكير السوريين في موضوع العودة إلى سورية بشكل عام (مجرد تفكير). وقد وافق نحو ثلث أفراد العينة على ذلك؛ إذ قالوا إنهم لا يفكرون مطلقًا في العودة إلى سورية، ووصلت نسبتهم إلى 33 %، في حين أن نسبة الذين يفكرون في العودة إلى سورية بلغت 67 %. وربما يعود ذلك إلى أن كثيرًا من السوريين لم يعد هناك ما يربطهم بسورية، لا أقارب ولا ممتلكات، حيث دمرت قوات النظام كل شيء يربطهم بالعودة إلى سورية، وربما يعود سبب ذلك أيضًا إلى انخراط بعض السوريين في المجتمع التركي وحصولهم على الجنسية التركية. كذلكرفض 37 % من السوريين العودة الدائمة إلى سورية، مقابل 63 % يفضلون العودة، في حال رحيل رأس النظام السوري بشار الأسد.
وفي سياق متصل أكد 47 % من أفراد العيّنة أنهم لا يوافقون على العودة الدائمة إلى سورية، وإن تفككت الأجهزة الأمنية، مقابل 53 % قالوا إنهم يوافقون على العودة في هذه الحالة، وهي نسبة أقل من سابقتها في حال رحيل رأس النظام السوري، على اعتبار أن رحيله يمكن أن يترافق مع تفكيك الأجهزة الأمنية. وفي حال تحسّن الظروف المعيشية وتوفر فرص العمل، قال 53 % إنهم يعودون بشكل دائم إلى سورية، مقابل 47 % لا يعودون.
والحقيقة أن هذه النسبة من الموافقة تضع الباحثين أمام تفسير سياسي بحت، فموافقة هذه النسبة على العودة -بربطها بتحسن الشروط المعيشية- يعني أن هذه النسبة وما يمثلونها ليس لديها أي مشكلة مع النظام السوري، على المستوى السياسي والعسكري والاجتماعي، وينحصر همها الرئيسي في وجود شرط اقتصادي جيد. أما في حال وجود ضمانات بعدم الاعتقال فقط، من دون تفكيك الأجهزة الأمنية، فقد ارتفعت نسبة الرافضين للعودة إلى سورية إلى 54 %، مقابل 46 % يعودون بشكل دائم في حال تحقيق هذا الشرط. وفي حالة استقرار الوضع الأمني بشكل نهائي في الشمال السوري، والعودة الدائمة إلى هناك، جاءت نسبة الرفض الأكبر بنسبة وصلت إلى 74 % من مجموع أفراد العينة.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة