هل يطبّع نظام دمشق؟ بأي ثمن؟

غازي دحمان

يطرح صمت نظام الأسد عن اتفاقيات التطبيع بين الإمارات والبحرين مع إسرائيل سؤالا عن أسبابه، فيما طالما استغل هذا النظام مثل هذه المناسبات لإبراز مدى محافظته على الحقوق العربية، وتمسّكه بالنضال لتحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة، فأين ذهب صوتُه هذه المرّة، مع أنه ما زال يعيّر العالم بتنفيذ أجندة صهيو- أميركية، لإسقاطه في إطار مؤامرة كونية؟

معاداة إسرائيل مسألة وظيفية لنظام الأسد، لتحقيق جملة من الأغراض، يحتاج الأسدان (الأب والابن) تحقيقهما في الداخل السوري، وفي البيئتين، الإقليمية والدولية، مثل إضفاء الشرعية على نظامٍ لم يمتلك في أي يوم مشروعا واضح المعالم، فقد تأرجح بين عدة مشاريع، لينتهي، لأسبابٍ طائفية، إلى الانخراط ضمن مشروع إيران في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، ظل يناور، ولم يلتزم التزاماً كاملاً بهذا المشروع، إلا بعد أن أصبحت حاجته لإيران وأدواتها ضروريةً لبقائه في السلطة، في مقابل انعدام جميع الخيارات.

ولكن ليس خافياً أن نظام الأسد لم يطق يوماً برنامج إيران، وتحديداً في شقّه المتعلق بمواجهة إسرائيل، لإدراكه التكاليف العالية التي يرتبها عليه الالتزام بهذا البرنامج، كما أنه يفضّل اتّباع تكتيكات في هذا المجال، تختلف عن أسلوب إيران، فقد اعتاد نظام الأسد على تشغيل وكلاء عنه، للحفاظ على صورته مقاوماً، ولم ينخرط يوماً في مقاومة مباشرة لإسرائيل، بل فضّل أدوارا من نوع ناقل أسلحةٍ إلى حزب الله، أو مستضيفا للمكاتب السياسية لحركات المقاومة الفلسطينية، حماس والجهاد الإسلامي. وفي هذه الحالات، كانت المخاطرة محسوبةً والتكاليف محتملة، وكانت ردّات الفعل الإسرائيلية محصورةً في عمليات اغتيالٍ لأعضاء هذه التنظيمات. وكانت إسرائيل تفضل هذا الدور لنظام الأسد، وشاع بين السياسيين والمثقفين أن حضن نظام الأسد يشكّل مقبرة للثوريين، فكل ناشط سياسي، أو مثقف، أو حركة مقاومة، يصاب بالإخصاء في دمشق، ويفقد فعاليته، وشيئاً فشيئاً يتحوّل إلى سائح في ربوع سورية وينسى قضيته الأساسية. ولذلك رفض مناضلون كثيرون الوقوع في الفخ السوري، على الرغم من قلة الخيارات والبدائل.

في مرحلة الثورة، وجد نظام الأسد نفسه في موقعٍ لم يرده. ولم يكن خافياً أن إيران استثمرت ضعفه، وحاجتها له، لتورّطه عنوة في مشروعها. ولكن تغيّرت وضعية نظام الأسد بعد تدخل روسيا، وسيطرتها على مساحة واسعة من سورية، والأهم زوال خطر سقوطه، وهي القضية الأساسية التي تشغله، وتشكّل المحدّد الأساسي لتحالفاته وتوجهاته وسياساته. وقد تراجعت أهمية تحالفه مع إيران إلى الحد الذي يستثمره موازنا للدور الروسي الذي يخاف من بيعه في أي بازارٍ يحقّق قدراً أكبر لمصالح الرئيس بوتين.

والمشكلة في نظر نظام الأسد أن الاعتماد على الحليف الروسي وحده غير كافٍ لدوام استمراره، خصوصا بعد نزع بوتين جميع أوراق القوّة من يد الأسد، عبر السيطرة على الاقتصاد السوري، واختراقه الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتشكيل بدائل سياسية يمكن لروسيا، إذا ما أرادت تفعيلها، أن تصبح واجهات سياسية تحل مكان الأسد. بالإضافة إلى أن تأهيل الأسد عبر القنوات العادية بات مستحيلا، في ظل “قانون قيصر” والمحاكمات ضده في ألمانيا وفرنسا وهولندا، وأصبح في حاجةٍ إلى حدثٍ فوق عادي، ينقذه من هذا الوضع.

هنا ترتسم إسرائيل في الأفق مخلصاً محتملاً، إذ تستطيع، إذا ما حرّكت أدواتها المؤثرة في دوائر القرار في الولايات المتحدة وأوروبا، شطب أو تجميد فعالية كل هذه القوانين والقرارات والمحاكمات. وسبق أن فعلت ذلك، فبعد احتلال العراق، زار وزير الخارجية في إدارة بوش دمشق، وقدم للأسد شروطا عشرة لبقائه في الحكم. ولكن، وباعترافات من أجهزة المخابرات الإسرائيلية، ذهبت الوفود العسكرية والأمنية إلى واشنطن، وقالوا لهم بالحرف: أنتم سترحلون، لكننا باقون في الشرق الأوسط، وإزاحة نظام الأسد عن حكم سورية يعني أنكم تضعون صبرنا في خطر، فالبدائل غير مضمونة أبداً، ولن يستطيع نظام جديد في دمشق الحفاظ على أمن إسرائيل.

يعرف نظام الأسد هذه الحقائق، ويعرف أن المرحلة المقبلة مصيرية بالنسبة له، وهو في حاجةٍ لوسائد أمان لن تؤمنها له سوى إسرائيل، والتطبيع معها. في هذه الحالة، لن يكون من الصعب على نظام الأسد الانتقال إلى شعارات جديدة. المسألة ليست سوى نحت شعارات وتعميمها، مثل “سلام الشجعان” و”من أجل مستقبل الأجيال” و”حاربنا بصلابة وندخل السلام بقناعة”، وهكذا.

يعرف نظام الأسد أن الساحة الداخلية باردة، فلن يجد حزباً أو مراكز قوى تعارضه، فهذه وتلك كلها من صنع يديه. أما روسيا فسيسعدها هذا، لأنها ستضيف إلى أدوارها دورا جديدا في المنطقة، المساهمة في صناعة السلام، بعد أن ساهمت في “الحرب على الإرهاب”. الإشكالية الوحيدة ربما إيران. ولكن علينا التنبه إلى أن الأسد يراقب ما يحصل في العراق جيداً، وبالتحديد إمكانية نجاح رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، في إضعاف نفوذ إيران، وتجريد مليشياتها من السلاح. وفور نجاح هذا الأمر، لن يتردّد الأسد في الذهاب إلى السلام والتطبيع مع إسرائيل. وحتى لو لم ينجح الكاظمي، فإن الأسد سيفاضل مستقبله ومستقبل عائلته في الحكم على العلاقة مع إيران. ولكن هل تقبل إسرائيل منحه الجولان هدية له على مبادرته؟ الأرجح أن موضوع الجولان أصبح من الماضي، وإسرائيل لن تقبل سوى بمبدأ “السلام من أجل تأهيل نظام الأسد”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى