تعيش الأمة كل الأمة، والوطن السوري منها بالضرورة، حالة من العثار الكبير، الذي يبحث عن مخرج له، يُمسك بناصية الانفلات من هذا الواقع وصولاً إلى بر الأمان، في وقت تتهدد الأمة مخاطر إقليمية ودولية جمة، وتتحكم في مآلات طريقها الكثير من القضايا، التي باتت تشكل الخطر الأكبر على مصائرها، ومستقبلها، دون القدرة لدى النخب، أو النظم، أو القوى الشعبية المناهضة لهذه النظم من تخطي الواقع الصعب. وقد انطلقت موجات الربيع العربي منذ بدايات عام 2011، في محاولة شعبية عربية حقة لإنجاز ما عجزت عن إنجازه الكثير من نخبها، وما تعثرت به معظم قوى المعارضة في جل الساحات العربية، فجاءت موجات الربيع العربي تحاول كسر حالة (الستاتيك) في الواقع العربي، لكنها جوبهت بأدوات نظم الاستبداد والقهر والاستلاب وداعميها من دول إقليمية ودولية، ليحول ذلك دون تحقيق المبتغى، إلا ما ندر منها.
ويبدو أن حالة العثار الكبير التي تنتاب واقعنا، لم تعد متعلقة بالنظام العربي الرسمي فقط، بل هناك مسائل منجدلة فيما بينها، في إطار مصالح متمفصلة، تمسك باستمرارية وجود نظم الاستبداد المشرقي، من حيث أنها تحقق لها مصالحها، وتساهم في الإبقاء على الأوضاع العربية فيما آلت إليه، وتحمي أمن الكيان الصهيوني، وهو الهم الأساس لدى الغرب والشرق من سياسات أميركية أو روسية أو اتحاد أوربية. من هنا فقد ساهمت هذه المصالح ومعها مصالح إقليمية أخرى، أخطرها المشروع الفارسي الطائفي الإيراني الذي ما برح متحركًا، ومنذ أواخر السبعينيات لتحقيق حلم الإمبراطورية الفارسية.
ولعل ما هو أكثر أهمية في عملية إعادة استنهاض المشروع العروبي من حالة الاستنقاع التي هو فيها، يكمن في الأسس التي بات مطلوبًا الاتكاء عليها والبناء على أساسها، وتجاوز كل الترهلات التي علت بنيان المشروع، والتكلس والصدأ الذي أصاب حوامل هذا المشروع، عبر السنين الطويلة التي تفصلنا عن عام 1970 غياب القائد جمال عبد الناصر، وبالتالي فهل من الممكن الاشتغال على نفس الحوامل، ونفس النهج، أم أنه لابد من صياغات متجددة وجديدة تواكب حالة نهوض الشعوب العربية، في عقودنا الحالية. إذ لم يعد ممكنًا أن نبقى نراوح في المكان ونعيد اجترار نفس المسائل التي تجاوزها الزمن، بل لابد من الغوص في جوانية الماهية، والبحث في كل المحددات، دون أن ننسف الأسس التي بني عليها المشروع العروبي، حتى تكون هناك إمكانية للحداثة وما بعدها، ضمن أتون متغيرات لا ضير أنها تتحرك أمامنا، وتضيء مستقبلات أيامنا، ترتكز على الديمقراطية التي أدركها بوعي مطابق الراحل جمال الأتاسي وحاول طرح ما هو تنويري في سياق هذا المشروع. إضافة إلى ما حفر فيه عميقًا كلاً من الياس مرقص وياسين الحافظ. عبر النقد المزدوج كطريق ممكن وضروري للاستيعاب.
إن استيعاب المتغيرات والظروف المستجدة مهمة أساسية في وعي الضرورة، ومعرفة كيفية الولوج في سياقات جديدة، تتمكن من الإمساك في أدوات وآليات جديدة، قادرة على الإيفاء بما هو مطلوب، رغم حالات القهر والاستلاب المعيقة التي نجدها في كل مكان. وإذا كان المشروع العروبي اليوم أكثر ضرورة، وإلحاحًا من أي وقت مضى فلأنه وأمام فشل المشاريع الأخرى، يطرح نفسه كمخرج لابد منه، ولا استمرار إلا به، وهو اليوم لن يكون في حالة تضاد مع المسألة الوطنية ، ولا تجاوزًا مباشرًا للوطن والوطنية أو القفز من فوقهما، بل هو وعي حقيقي للعلاقة الممكنة والمتاحة والمهمة المتمفصلة مع القومية والامتداد العربي، وهو أيضًا دخول في العمق، واستيعاب للمتغيرات جميعًا، انطلاقًا من تأسيس جدي لعقد جمعي وجماعي، وطني أولًا، ضمن بوتقة العروبة المتكئة على القضية الوطنية، وليس بتجاوزها أو الخروج عنها وعليها.
المشروع العروبي مازال مخرجًا علميًا وجديًا، بيده إمكانية تخطي عنق الزجاجة، كي نتمكن من دخول واع وعقلاني لحيوات الأمة، بعقل متفتح غير متعصب، وغير شوفيني، مدرك لكل ما يدور في داخله أو في محيطه الإقليمي. مستوعبًا أشد الاستيعاب لخطرين أساسيين اليوم في واقع الأمة، هما الخطر الصهيوني، والخطر الآخر الفارسي، الذي لا يقل عن الأول خطورة. ولا يمكن أن يكون البناء المتمكن للمشروع العروبي إلا بالتخارج مع هذين الخطرين وفي مواجهتهما، ولا يمكن أن تكون حالة الانزياح الفكري في بعض الساحات العربية، ولوج في التطبيع مع أحد هذين الخطرين، إلا ناقوس الخطر الذي علينا جميعًا وعيه عاجلًا أم آجلًا. فلا حل للأمة إلا في إعادة إنتاج مشرعها العروبي الخالي من كل الأمراض الاستبدادية التي تغلغلت مسبقًا في جسد الأمة وبعض ملامحها ومخرجاتها.