السلطة الانتقالية السورية: مسؤولية الاحتواء وفخ الاستعراض

   سميرة المسالمة

عادة ما تمر الدول الخارجة من حروب طويلة ومعقدة ومدمرة،بمرحلة متقلبة من الاضطرابات السياسية والتصدعات الاجتماعية. ويأتي ذلك نتيجة الدمار الذي خلفته ظروف الحرب من جهة، وكنتيجة طبيعية لتعدد مراكز القوى المشاركة في صناعة هزيمة الخصم من جهة ثانية، ما يترك البلاد في حالة من الاضطراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، لحين توفر إجماع شامل لمشروع الدولة المأمولة، والحالة السورية ليست استثناءً. ما يجعل أولويات الدولة وخياراتها اليوم متوقفة على صناعة الرؤية الشاملة الجامعة لسوريا ما بعد مرحلة التحرير، التي أنجزتها فصائل لها اتجاهات أيديولوجية وعقائدية مختلفة، وأحياناً متضاربة، على الرغم من أنها اجتمعت على هدف اسقاط نظام بشار الأسد.

لا أحد يمتلك وصفة سحرية لتجاوز التركة الثقيلة للنظام البائد، كما لا يمكن تبريد مكامن التوتر وما ينتج عنها من اشتباكات متوقعة بين أيديولوجيات فصائلية مختلفة، مع مكونات دينية وقومية متنوعة، خلال فترة زمنية قصيرة. وفي ظل وجود تلك الاختلافات في الرؤى والتوجهات، فإن ما يحدث يأتي ضمن سياق المتوقع لفترة انتقالية ساخنة. لكن ذلك لا يبرر الاستسلام لفكرة أن العنف والفوضى والمطالبة بالتقسيم حالة طبيعية. فالمسؤولية الوطنية تقتضي من جميع الأطراف، سواء في السلطة أو خارجها، السعي نحو إيجاد حلول واقعية، تراعي التوازن بين ضرورة تأمين الاستقرار، وحرية المواطنين أفراداً وجماعات، وواجب السلطة الحاكمة الاستماع إلى الأصوات التي ترى مسارات متنوعة للحلول الوطنية، لا انطلاقاً من منطق الخضوع لها، أو بالمقابل إخضاعها، بل من منطق الاحتواء الذكي والمبادر، أي احتواء الكل الجامع للجزء الذي يكتمل به، ومبادرة الجزء الذي يقوى بالكل.

فالأدوات العنفية ثبت بالتجربة الطويلة أنها لا تعالج التوترات المجتمعية، فمنطق “القبضة الأمنية” مارسه نظام الأسد (الأب والابن) خلال ستة عقود ماضية، وأسقطه الشعب بسبب ذلك. وهو لا يمكن أن يكون بوابة استقرار مهما طال الزمن. لهذا، تجربته عائديتها صفرية على كل الأطراف التي تتموضع خلفه، سواء كانت أدواتها محلية أو خارجية.

لذلك، المطلوب هو مقاربة ناضجة، من كل الأطراف، تبدأ من اعتراف السلطة بأن جزءاً من الخلل ليس في الشارع فحسب، بل في طريقة إدارة ملفات الدولة السورية، وضعف العمل المؤسساتي، وغياب العدالة المواطنية، وخفوت صوت الإعلام المهني، وتآكل الثقة بين المجتمع والسلطة بعد الخراب الذي عممته سلطة الأسد في كل مكان. وما لم يقطف الشعب ثمار التغيير الإيجابي بأسرع وقت، فإن حالة التموضع الضدي بين السلطة والمواطنين ستزداد مع الزمن، بدرجات تغذيها الظروف المحيطة، تارة الطائفية، وتارة القومية، وتارة المطالب الحياتية والمؤسساتية والحريات المنشودة.

والمصارحة من كل الأطراف بالواقع، تستدعي إرساء نهج جديد أساسه الاعتراف بالتنوع وفتح المسارات نحو بناء عقد اجتماعي جديد جامع، يحقق لكل المكونات والشرائح السورية مطالبهم في الحرية الثقافية والإدارية والاقتصادية والمجتمعية ومشاركتهم الفاعلة في تفاصيل تكوين الدولة شكلاً ومضموناً.

وبالمقابل، فإن وعي الشعب لحقيقة وخطورة المطالب الانفصالية، والانضواء تحت عباءة الاحتلال الإسرائيلي، والتمييز بينها وبين مطالب التحرر من المركزية الشديدة، وحق المشاركة السياسية وضمان حقوق المواطنة المتساوية، مسؤولية الشرائح القادرة على التأثير الشعبي وتوضيح خياراته.

لذلك لعل أول ما يجب الاعتراف به هو أننا نعيش أزمة داخلية كبيرة، يمكن عنونتها بعدم الاستقرار السياسي في البلاد، وهذا بالطبع ينتج عنه خلل في كل المسارات الأخرى، خصوصاً المسار الاقتصادي الذي يعول عليه السوريون للخروج من عباءة الحرب وتبعاتها، من فقر وبطالة وخلل اجتماعي كبير. ولأن أصعب المراحل التي تمر بها سلطة ما بعد الحرب، هي مرحلة التأسيس للدولة، وإعادة تمكين أدواتها المؤسساتية، لتأمين الاستقرار وضمان الأمن للمواطنين، وهي مرحلة لا يمكن تحميل مسؤوليتها لطرف واحد.. فالحاجة للشراكة مع الطرف المقابل له ليست ضعفاً، بل يجب أن يحتوي كل منهما الآخر، ويتفهم طموحاته وتطلعاته كما يتفهم ويقدر واجبات المقابل له، من دون أن يقع أي منهما بفخ استعراض قوته، أو امتدادات أذرعه خارج الدولة أو داخلها.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى