
منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير 2022، وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقع اللاعب الدولي الأبرز، ليس فقط لأنها القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في حلف شمال الأطلسي، بل لأنها الوريث الطبيعي لدور الوصي الأمني والعسكري على أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. تلك الحرب التي دفعت فيها واشنطن أكثر من ٤١٨ ألف قتيل بين جنود ومدنيين، لتضع نفسها في صدارة القوة الحامية للقارة العجوز، وتفرض وصايتها على منظومة الأمن الأوروبي لعقود متتالية.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاث سنوات على الغزو الروسي، تتكشف ملامح إستراتيجية أمريكية مزدوجة: فمن جهة، هناك إصرار على منع انتصار روسي شامل قد يطيح بالتوازن الأمني في أوروبا، ومن جهة أخرى، ضغوط خفية وعلنية على القيادة الأوكرانية لتقبل بتسوية تتضمن التنازل عن أراضٍ سيادية احتلتها موسكو، سواء في القرم عام 2014 أو في الشرق الأوكراني خلال الحرب الأخيرة.
الحرب الروسية: عدوان غير مبرر
من منظور القانون الدولي، يُعد الغزو الروسي لأوكرانيا اعتداء سافراً على سيادة دولة مستقلة، وخرقاً واضحاً لميثاق الأمم المتحدة. لا مبرر شرعياً ولا أخلاقياً لحشد عشرات الآلاف من الجنود الروس عبر الحدود، وإطلاق الصواريخ على المدن الأوكرانية، وتشريد ملايين المدنيين.
روسيا تبرر هجومها بحجة “حماية الأمن القومي” ومنع تمدد حلف الناتو، إلا أن هذه الذريعة لم تُقنع العالم، بل أظهرت أن موسكو تسعى لإعادة رسم خريطة النفوذ الإمبراطوري على أنقاض دول الجوار. حيث أن الحرب خلّفت عشرات الآلاف من القتلى، وموجات نزوح غير مسبوقة في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وحوّلت أوكرانيا إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين روسيا من جهة، والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى.
الدور الأمريكي: دعم مشروط
قدّمت الولايات المتحدة دعماً هائلاً لأوكرانيا على المستويين العسكري والاقتصادي، شمل مليارات الدولارات من المساعدات، وصواريخ متطورة، وأنظمة دفاع جوي، وتدريباً مستمراً للجيش الأوكراني. غير أن هذا الدعم لم يكن مطلقاً، فمنذ البداية وضعت واشنطن خطوطاً حمراء واضحة: لا تدخل مباشر للقوات الأمريكية، ولا إرسال لطائرات مقاتلة متقدمة إلا بعد جدل طويل، ولا منح أوكرانيا عضوية فورية في الناتو.
بل إن ضغوط الإدارة الأمريكية على الرئيس فلاديمير زيلينسكي باتت أوضح في الأشهر الأخيرة. فقد تسرّبت تقارير تشير إلى أن واشنطن تدفع باتجاه تسوية سياسية، حتى لو تضمنت تنازلاً أوكرانياً عن أراضٍ باتت تحت السيطرة الروسية. وبذلك، يجد الأوكرانيون أنفسهم بين مطرقة العدوان الروسي وسندان الحسابات الأمريكية.
صورة تختصر المشهد
الصورة التي التُقطت مؤخراً في البيت الأبيض، وجمعت قادة أوروبا والرئيس الأوكراني زيلينسكي جالسين أمام الرئيس الأمريكي خلف مكتبه، تختصر حقيقة التوازن في هذه الأزمة. ظهر القادة الأوروبيون كطلاب مدرسة أمام “الأستاذ الأمريكي”، وهو مشهد لم يغب عن المحللين الذين رأوا فيه رمزاً لاستمرار الوصاية الأمريكية على أوروبا، وعدم استقلالية القرار الأوروبي حتى في أخطر القضايا المصيرية.
هذه الصورة ليست مجرد لقطة بروتوكولية؛ إنها انعكاس لواقع أعمق: أوروبا ما زالت تابعة في أمنها لواشنطن، رغم مرور ثمانية عقود على نهاية الحرب العالمية الثانية. وما زال البيت الأبيض هو من يحدد سقف الدعم، ومآلات الحرب، وحدود ما يمكن لأوكرانيا أن تحلم به.
الخذلان الأوكراني
أوكرانيا التي قاومت بشراسة، ودفع شعبها ثمناً باهظاً في الأرواح والدمار، تشعر اليوم بمرارة الخذلان. فبعد وعود غربية متكررة بالدعم “حتى النهاية”، بدأت تسمع أصواتاً تطالبها بـ”الواقعية السياسية”، أي القبول بسلام منقوص يكرّس مكاسب موسكو الميدانية.
رفض واشنطن حتى الآن ضم أوكرانيا إلى الناتو، رغم انضمام دول أصغر وأقل أهمية استراتيجية، يمثل رسالة سياسية واضحة: حماية أوكرانيا ليست كاملة، ومصيرها سيبقى رهينة التوازنات الأمريكية الروسية.
وصاية مستمرة منذ الحرب العالمية الثانية
منذ عام 1945، عندما خرجت الولايات المتحدة منتصرة من الحرب العالمية الثانية بخسائر بشرية بلغت أكثر من 418 ألف قتيل، أسست لنظام أمني عالمي بقيادتها. أنشأت الناتو، فرضت وجود قواعد عسكرية في القارة الأوروبية، وأمسكت بمفاتيح القرار الدفاعي الأوروبي. واليوم، ورغم اختلاف الزمن والسياقات، فإن واشنطن لا تزال تمارس الدور ذاته: المانح الأكبر للحماية، وصاحب الكلمة الفصل في الحرب والسلم.
لكن الفارق أن هذه الوصاية، التي قُبلت سابقاً كضمانة للاستقرار، باتت تُنظر إليها اليوم كقيد على استقلالية القرار الأوروبي، وكعامل يحدّ من طموحات الأوكرانيين في استعادة كامل أرضهم.
الخلاصة
التدخل الأمريكي في الحرب الروسية الأوكرانية يعكس مزيجاً من القوة والقيود: قوة تمنع روسيا من ابتلاع أوكرانيا بالكامل، وقيود تفرض على كييف تسوية غير عادلة. وبينما تصر واشنطن على لعب دور “الوصي”، تبرز صورة زيلينسكي وقادة أوروبا جلوساً أمام الرئيس الأمريكي كمشهد رمزي يلخص الواقع: أوروبا ما زالت تحت المظلة الأمريكية، وأوكرانيا تُدفع نحو تنازلات مؤلمة.
في النهاية، قد تُوقف أمريكا الحرب، لكنها لن تمنح أوكرانيا الانتصار الذي حلمت به. وما بين الوصاية والخذلان، يظل الشعب الأوكراني هو الخاسر الأكبر.