شهادات ضد الحرب (مرثية السلام)

عساف سلامة السلمان

لا شكّ أن الحرب جريمةٌ كبرى، لا تُفرّق بين بشرٍ وحجر، ولا تميّز بين بيتٍ وصدرٍ، فهي حين تبدأ لا تكتفي بإسالة الدم، بل تقتلع المعنى من الحياة. وكل من يتمنى استمرارها، أو يبررها، إنما يعلن إفلاسه الإنساني قبل أي شيء آخر، لأن الحرب لا تحتاج إلى رأيٍ مؤيد بقدر ما تحتاج إلى ضحايا.
لهذا لم يكن غريبًا أن يقف كبار الكتّاب والمسرحيين عبر التاريخ في صفّ الحياة، ويُعرفوا بـ «كتّاب ضد الحرب». منذ المسرح الإغريقي، حيث صرخ يوربيديس وأريستوفانيس في وجه السيوف، وكتب الأخير مسرحيته «السلام» و«برلمان النساء»، متخيّلًا آلهة السلام مختطفةً في سجون إله الحرب، لا تُحرَّر إلا حين يجرؤ بطلٌ بسيط على كسر الأقفال. وما إن يعود السلام إلى أثينا، حتى تبور تجارة الحرب، وتفقد أسواقها زبائنها، كأن الكاتب كان يهمس بحقيقة خالدة: لا ربح في الدم.
ثم جاء بريخت، بمرارة القرن العشرين، ليكتب «الأم الشجاعة»، تلك المرأة التي جرت عربتها خلف الجيوش طمعًا في النجاة، فإذا بها تخسر أبناءها واحدًا تلو الآخر في حربٍ لا تعرف أسماءهم ولا تعترف بتضحياتهم. لم تكن الحرب حربهم، لكنها التهمتهم كما تلتهم النار حطبًا يابسًا.
وكتب الأمريكي إروين شو عن «ثورة الموتى»، أولئك الجنود الذين رفضوا أن يُدفنوا بصمت، بعد أن زُجّوا في حروبٍ بعيدة للسيطرة على ثروات لا يعرفون أسماءها، وماتوا في ريعان الشباب، دون أن يتذوقوا طعم الحياة أو يربّتوا على رؤوس أطفالهم.
أما برنارد شو، فاختار السخرية سلاحًا، فهجا الحروب وأبطالها المزيّفين في «الرجل والسلاح» و«تلميذ الشيطان» و«رجل الأقدار»، حيث يسخر من نابليون نفسه، كاشفًا أطماعه العارية، وكيف تتحول الجيوش إلى أدواتٍ لجنون العظمة.
ولا يمكن الحديث عن أدب الحرب دون التوقف عند إرنست همنغواي، الذي عاين الحروب مراسلًا لا متفرجًا، وشهد أهوال الحربين العالميتين والحرب الأهلية الإسبانية. كتب «وداعًا للسلاح»، حيث ينتصر الحب أخيرًا على البنادق، و«لمن تقرع الأجراس»، كاشفًا التدخلات الدولية التي حوّلت إسبانيا إلى ساحة نزفٍ مفتوحة. وكان من أفظع ضحايا تلك الحرب الشاعر لوركا، الذي قُتل شابًا، وكأنه تنبأ بمصيره حين كتب:
»وعرفت أنني قُتلت .. وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس .. فتحوا البراميل والخزائن .. سرقوا ثلاث جثثٍ .. ونزعوا أسنانها الذهبية .. لكنهم لم يجدوني قط. «
غير أن كل هذا التاريخ، بكل كتبه ومآسيه، يبدو كأنه مقدمةٌ باهتة لما نراه اليوم في المشهد السوري. هنا، لم تعد الحرب فكرةً تُناقش، بل حياةً تُستهلك. أصبحت المرأة عبئًا في عيون أهلٍ أنهكهم النزوح، فيُزوَّج جسدها للتخفيف من المسؤولية، لا بحثًا عن أمانها، وغالبًا ما تُسلَّم لرجلٍ لا يصون كرامتها ولا يملك حمايتها. لأنها، في زمن الخراب، الحلقة الأضعف في كل معادلة.
والأطفال، بدل أن يحملوا حقائب المدرسة، يحملون أثقال العمل المبكر. لا مدارس، ولا كوادر، ولا أفق. يعملون كي لا يضيعوا، وكي يساعدوا أهلهم على مواجهة مصاريف لا ترحم، في دول الجوار أو في الداخل. وكم شاهدنا وجوههم في مقاطع الفيديو، تُهان وتُقهر، وكأن الطفولة نفسها صارت جريمة.
أما الجوع، فهو قصة أخرى… جوعٌ صامت، مخجل، مسكوت عنه. جوعٌ لا تصله الكاميرات ولا البيانات الإنسانية، لأن طرق المساعدات مقطوعة، والمناطق محاصرة، والإنسان آخر ما يُفكَّر به في خرائط النزاع.
في النهاية، لا أحد يخرج سالمًا من الحرب. هي رحى عمياء، تطحن كل من يمر بها: القاتل والمقتول، الصامت والصارخ. وكل ما نتمناه أن تتوقف هذه الرحى بأسرع وقت، لا لننسى ما حدث، بل كي يستعيد الناس بعض توازنهم، وبعض قدرتهم على التنفس، وبعض الإيمان بأن الحياة، رغم كل شيء، ما زالت تستحق أن تُعاش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى