نحو مقاربة سورية وطنية للسلام من دون تطبيع في زمن الضغوط

ماهر حسن شاويش

في ظل ما نشهده من تحوّلات إقليمية متسارعة، تتزايد الضغوط المباشرة وغير المباشرة على الملف السوري، وخصوصًا فيما يتعلق بموضوع المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي.

خلال الأسابيع الماضية، لاحظتُ – كغيري من المتابعين – تصاعد الحديث الإعلامي عن سيناريوهات “السلام” بين سوريا وإسرائيل، بشكل يوحي أن المسألة باتت أقرب إلى الطرح السياسي منها إلى التحليل النظري أو التهويل الإعلامي.

وسط هذا المشهد، تبرز الحاجة إلى مقاربة سورية واضحة وناضجة، لا تنطلق من ردّ فعل، ولا تتورّط في انفعال، بل تُعبّر عن رؤية وطنية مسؤولة تدرك توازنات المرحلة الانتقالية، وتضع في أولوياتها الثوابت الوطنية، وفي مقدّمتها استعادة الجولان المحتل ورفض التطبيع بجميع أشكاله.

واقع جديد.. وأسئلة كبرى

لا يمكن إنكار أن المزاج الشعبي السوري، رغم تمسكه برفض التطبيع، يميل اليوم إلى الاستقرار والبناء، بعد أكثر من عقد من الدمار والتشريد. كذلك، هناك جنوح رسمي نحو تفكيك بعض الألغام الأمنية على الجبهات، وهو أمر مفهوم ضمن سياق الحاجة إلى إعادة التوازن الميداني والسياسي، وتخفيف حدّة الصراع.
لكن، هل يعني هذا القبول بأي “تهدئة” تحت عنوان السلام؟ وهل يمكن لمثل هذه الخطوات أن تتم في ظل غياب الشرعية السياسية والدستورية الكاملة لسوريا الجديدة؟ والأهم: كيف يمكن لسوريا أن تتفادى الوقوع في فخ “التطبيع مقابل الاستقرار”؟

مقاربة مسؤولة لا تُفرّط ولا تُغامر

أدعو من هذا المنبر إلى بلورة مقاربة سورية متماسكة للسلام العادل من دون تطبيع، تقوم على أربعة مرتكزات رئيسية:

  1. الحقوق غير القابلة للتفاوض:
    الجولان المحتل ليس ورقة تفاوض أو صفقة مرحلية، بل جوهر قضية وطنية يجب أن يُعاد إلى السيادة السورية بالكامل، وفق قرارات الشرعية الدولية.
  2. الشرعية الكاملة شرط لأي اتفاق نهائي:
    لا يمكن الحديث عن سلام دائم في ظل غياب منظومة حكم شرعية تمثّل السوريين جميعًا، وتملك تفويضًا شعبيًا واضحًا لاتخاذ قرارات مصيرية.
  3. فصل التفاهمات الأمنية عن المسار السياسي:
    أي إجراءات تهدئة أو منع تمدد إسرائيلي في الجنوب يجب أن تُعالج ضمن صيغة “هدنة 1974” أو ما يماثلها، بعيدًا عن مسار تطبيعي أو اعتراف سياسي.
  4. رفض التطبيع كمبدأ دستوري وثقافي:
    يجب أن يُصاغ هذا الموقف بشكل واضح في الدستور الجديد، وأن تدعمه سياسة إعلامية وثقافية تربّي الأجيال القادمة على الوعي بتاريخ الصراع وسياقاته العادلة.

ولا يمكن إغفال أن في سوريا ما يقارب نصف مليون لاجئ فلسطيني، يشكّلون جزءًا من النسيج الوطني والاجتماعي السوري، ومن واجب أي مقاربة سلام أن تحفظ حقوقهم، وتضمن عدم التفريط بقضيتهم في أي اتفاق مستقبلي، خاصةً أن ملف اللاجئين هو أحد أركان الصراع العربي الإسرائيلي.

أي سلام لا يُبنى على عدالة القضية واستعادة الحقوق، يُنتج هشاشة سياسية، ومجتمعات متوجّسة، واتفاقات بلا روح.

تجارب السلام… دروس لا ينبغي تجاهلها

رغم مرور عقود على توقيع اتفاقيات سلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل، إلا أن التجارب تشير إلى أن التطبيع لم يُحقّق سلامًا حقيقيًا أو استقرارًا استراتيجيًا. فمعاهدة “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل مثّلت نموذجًا للتسوية السياسية، لكنها لم تثمر عن تطبيع شعبي حقيقي، وبقيت العلاقات محصورة في الإطار الرسمي والمخابراتي. أما في حالة الأردن، فلم تمنع معاهدة “وادي عربة” استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، ولم تُخفف من التهديدات الوجودية التي تواجه فلسطين.
هذه التجارب تُثبت أن أي سلام لا يُبنى على عدالة القضية واستعادة الحقوق، يُنتج هشاشة سياسية، ومجتمعات متوجّسة، واتفاقات بلا روح. وسوريا، بتاريخها وموقعها، لا يمكن أن تنخرط في مسار مشابه من دون أن تفقد كثيراً من وزنها الاستراتيجي ومكانتها في وجدان شعوب المنطقة.

الرأي العام السوري ليس قابلًا للاختزال

المزاج الشعبي السوري، حتى في أحلك الظروف، لم يُظهر أي استعداد للقبول بالتطبيع مع الاحتلال، بل ظلّ رافضًا ومتمسكًا بثوابته تجاه فلسطين والجولان. وهذا الموقف لم يقتصر على الشرائح القومية أو الإسلامية، بل يمتدّ إلى تيارات مدنية وليبرالية تُدرك أن أي تطبيع غير مشروط يشكّل تفريطًا بالسيادة وخيانة للتاريخ.
كما أن فصائل وقوى وطنية سورية – داخلية وخارجية – لن تقبل باتفاق لا يُعيد الحقوق بوضوح، ولا يُعبّر عن الإرادة السورية الجماعية. لذلك، فإن أي انزلاق نحو التطبيع قد يؤدي إلى صدع سياسي واجتماعي يصعب ترميمه، ويقوّض مسار بناء الشرعية الوطنية.

لماذا نحتاج هذه المقاربة الآن؟

لأننا ببساطة أمام لحظة دقيقة من تاريخ سوريا. لحظة تتطلب موقفًا يُحافظ على كرامة الدولة وهيبتها، من دون أن يغفل عن حاجات الناس الحقيقية.
المقاربة المقترحة ليست “ضد السلام”، لكنها ضد السلام المغشوش الذي يتحوّل إلى غطاء لهيمنة جديدة.
إنها دعوة لسلام ناضج، يُعيد الحقوق، ولا يبيعها، ويضع سوريا في موقع المسؤول لا المساير، والندّ لا التابع.

مقترح عملي

أدعو إلى صياغة ورقة سياسية وطنية جامعة بعنوان:
“من أجل مقاربة سورية جديدة للسلام العادل دون تطبيع”
تُعرض هذه الورقة على الفعاليات الوطنية، والقوى السياسية والمجالس الانتقالية، وتتضمن:

  • تثبيت حق سوريا في استعادة الجولان.
  • تحديد شروط وضوابط التفاهمات الأمنية المؤقتة.
  • رفض التطبيع كقضية دستورية وثقافية.
  • تأكيد أن أي اتفاق سلام لا يمكن عقده قبل اكتمال المرحلة الانتقالية.

من يريد بناء سوريا جديدة بعد انتصار ثورة عظيمة، فليبدأ من الناس، ويقطع مع كل إرث النظام الساقط، بما في ذلك منطقه في تحديد العدو والصديق.

خاتمة: فهم طبيعة المشروع الصهيوني

ورغم أهمية أي مقاربة مسؤولة، تبقى الخطوة الأولى نحو موقف وطني متماسك، هي فهم طبيعة المشروع الصهيوني نفسه: مشروع لم يُخلق ليصنع سلامًا، بل ليكون قاعدة متقدّمة للهيمنة الغربية في قلب المنطقة.

لهذا، لا ينبغي التعويل على أي “تفاوض” بوصفه بوابة تلقائية للسلام، بل يجب النظر إليه كمحطة اختبار للسيادة، وكمساحة لصياغة موقف وطني حقيقي، لا مجرد ترتيبات أمنية تحت الضغط.

#السوريون اليوم مرهقون… من الحرب، من الشعارات، من الخيبات.
وأي خطاب سياسي لا يُراعي هذا التعب، سيُفهم على أنه مجرد #مزايدات.

لكن حين تُطرح مسألة #مفاوضات مباشرة مع #إسرائيل، لا بد أن نكون واضحين:
هل نحن أمام تفاوض سيادي يُعيد الأرض والكرامة؟ أم أمام ترتيبات أمنية مؤقتة لا تُنهي الاحتلال بل تُعيد تدويره؟

الاحتلال لا يُسوّى أمنيًا.
والجولان لا يعود بتفاهمات تقنية.
وأي اتفاق لا يُعيد الحقوق ولا يُنهي القهر… ليس سلامًا.

قد يُقال إن مثل هذا الاتفاق “يسحب البساط من تحت أقدام الانفصاليين”…
لكن الانفصالية لا تُهزم باتفاق حدود، بل تُهزم بعقد وطني يُعيد الثقة للناس، لا بالقوة، بل بالكرامة.

ومن يريد بناء سوريا جديدة بعد انتصار ثورة عظيمة، فليبدأ من الناس، ويقطع مع كل إرث النظام الساقط، بما في ذلك منطقه في تحديد العدو والصديق.

فألف باء السياسة الوطنية، أن نُحدّد معسكر الأعداء والأصدقاء بدقة.
وإسرائيل كانت وما تزال عدوًا استراتيجيًا، لا طرفًا تفاوضيًا محايدًا.

المصدر: تلفزيون سوريا

تعليق واحد

  1. هل سيكون هناك إتفاقية سلام كالإبراهيمي بين الإدارة السورية والكيان الصه.يوني؟، لا أرى ذلك ، الإتفاقية تحتاج الى شرعية “برلمان – رئيس منتخب ودستور يشرع” وكذلك العقيدة المتمثلة للإدارة لا تسمح بها، ولكن يمكن إعادة إحياء اتفاقية فصل القوات 1974 لا أكثر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى