
لم يكن الجيم مزدحماً ذلك اليوم…
كان مكتظّاً بالفراغ.
وجوهٌ مشدودة، أكتافٌ منحوتة، قلوبٌ منسيّة في جيوب المعاطف.
وأنا بينهم، أركض كلاجئٍ على جهاز المشي… كأن الأرض تهتز تحتي ولا أعرف كيف أثبت قدمي.
رنّ هاتف توماس.
رفع الهاتف بيدٍ تطابق لون الآلات المعدنية حوله.
استمع قليلاً… ثم قال بصوت هو أشبه بالهامش منه بالجملة:
“أنا مشغول الآن… ضعوها في الثلاجة. واتصلوا بالبلدية.”
لم أفهم.
لم أرغب أن أفهم.
ربما سمكة؟ كعكة؟ كيس لحم؟
سألته:
مين اللي يحطّوها بالثلاجة؟
قال وهو يزيد السرعة على الجهاز وكأنه يهرب من جملة قالها هو نفسه:
أمي… ماتت.
ثم عاد ليركض.
لا دمعة.
لا تنهيدة.
لا جملة مكسورة.
ركض فقط…
كأنّ المسافة بينه وبين قلبه أكبر من المسافة بين ستوكهولم وحلب.
وأنا؟
كنتُ أتجمد.
أشعر بثقلٍ على صدري… ليس من الرياضة، بل من الموت الذي مرّ أمامي ولم يقف أحد احتراماً له.
كيف يمكن لابن أن يضع أمّه في الثلاجة؟
كيف يمكن لموت الأم أن يكون خبراً يقال دون أن يتصدّع الهواء؟
كيف يموت أحد أهمّ أسباب وجودنا… دون أن يترنّح العالم؟
تذكرت وجوهنا نحن… الشرقيين.
نحن الذين نتهشم بصوتٍ واحد حين نسمع كلمة “ماتت الأم”.
نحن الذين لا ننام أياماً، ولا نتنفس بشكل طبيعي شهوراً.
نحن الذين نبكي الأم كما لو أننا ندفن قلوبنا معها.
في بلادنا…
إذا ماتت الأم،
يموت معها الضوء في البيت.
تتغير رائحة الجدران،
وتتبدل حرارة الهواء،
ويصبح صياح الديك في الصباح عزاءً،
وتسقط الأوراق اليابسة من الشجر حزناً، حتى لو كان الفصل صيفاً.
في بلادنا…
لا يموت الميت وحده.
تغسّله أيدٍ من لحمٍ يعرفه.
تلفّه أمُّ الجيران بقطعة قماش نظيفة،
وتقرأ عمته الفاتحة،
ويبكي أخوه حتى يفقد صوته،
وتنحني أكتاف الرجال من ثقل النعش والذكريات.
وفي بيت العزاء…
تُفتح الأبواب ثلاثة أيام،
يتعب فيها الناس من الوقوف،
لكنهم يستمرون…
يستمرون لأنّ الموت عندنا شيء مقدّس.
لأنّ الأم ليست مادة عضوية… بل تاريخٌ ورحمٌ وسماء.
يأتي الحزن جماعياً كخطبة الجمعة.
تسري الرقة في القهوة المرة،
وتتسع الأرائك كي تحمل كل هذا الفقد.
الناس يعرفون أن التعب في العزاء جزء من الدين،
وجزء من الأخلاق،
وجزء من رد الجميل.
فلا يُترك ابن الميت وحيداً،
ولا تُترك الأم تُدفن دون صراخٍ يهزّ أطراف القرية.
لكن هنا…
في الشمال البارد…
يموت الناس كما تسقط الثلوج:
بلا صوت.
بلا حسرة.
بلا أحد يخاف عليهم من الوحدة.
أمّ توماس ماتت كما تموت الأشجار حين لا يراها أحد.
وحيدة في سرير أبيض،
تتحرك حولها أجهزة تطلق طنيناً معدنيّاً باردًا…
طنيناً لا يعرف أن يقول: “الله يرحمك”.
لم تمسح أحد دموعاً عن خدّها.
لم يرفع أحد رأسها لتشرب ماء.
لم يقل لها أحد: “سامحينا” أو “ادعي لنا”.
بعد أيام، عاد توماس يقول بعبارة عادية كأنه يحجز موعد مساج:
اليوم موعد الكريميرنغ… الحرق.
أحرقوا جسدها.
أحرقوا شعرها الذي كانت تمشّطه وهي صغيرة.
أحرقوا أصابعها التي كانت تلقمه الطعام.
أحرقوا عطرها الذي بقي على ملابس طفولتها.
ثم جمعوا كل ذلك…
كل حياتها…
كل ذكرياتها…
كل أمومتها…
في جرة خزفية لا تعادل وزن حفنة تراب من قبر امرأة شرقية.
وحدّدت البلدية موعداً لدفن الرماد في حديقة البيت.
في حفرة صغيرة…
دون بكاء.
دون صلاة.
دون يد ترتجف وهي تضع التراب.
دون أحد يسأل:
كيف كانت أمك تحب قهوتها؟
ما آخر شيء قالت لك؟
هل كنتَ بارّاً بها؟
خرجتُ من الجيم،
أشعر أن قلبي يحمل جثتين:
جثة الأم التي لم يبكِ عليها أحد،
وجثة الإنسانية التي ماتت في ذلك الجيم.
قلت لنفسي:
نحن لا نترحم على الأموات فقط… نحن نترحم على الذين يبقون أحياء دون رحمة.
ومضيت…
أجرّ روحي خلفي،
وأشمّ في الهواء البارد رائحة ترابٍ شرقيٍّ…
ترابٍ يعرف أن الدفن جزء من الحب،
وأن دمعة الابن أهمّ من كل أجهزة الصدى والضوء.
ترابٍ…
لم يعرف يوماً كيف يضع الأمهات في الثلاجات.






