دقيقة واحدة… ويرجع 

عساف السلمان

لم تكن أم فايز تعرف القراءة ولا الكتابة،
لكنها كانت تحفظ وجه ولدها كما يحفظ البدوي مسارات النجوم.
كانت تقول:
“يكفيني أن أشوفه… ما بدي من الدنيا شي.”

في صباحٍ بارد، أخذها فايز إلى دمشق كي تُجري عملية في عينها.
كان يمازحها طوال الطريق، ويقول:
“يمّه… بدنا نرجّعلك النظر أحسن مما كان، تشوفي حفيدك الجاي.”
كانت تضحك بخجل، وتخبئ يدها في يد ابنها، وكأن العمر كله يستند على كتفيه.

لكن عند حاجز الضمير سيء الصيت—ذلك الاسم الذي لو كان للوقاحة نَسَبٌ لانتسب إليه—
أوقفوهم، أخذوا هويته، ثم قال ضابط شاب:

“خليه ينزل دقيقة.”

دقيقة واحدة فقط.
هكذا قال.
هكذا اختفى.

وقفت أم فايز تنتظر…
الدقيقة صارت ساعة…
الساعة صارت نهارًا…
والنهار صار عمرًا.

حاولت الصراخ:
“ابني وين؟”
لكن الجنود كانوا يمرّون أمامها كما لو كانت حجرًا على جانب الطريق.

لم تذهب إلى المشفى.
لم تفكر حتى في عينها التي تشوّشت من الخوف.
عادت إلى قريتها لا تحمل شيئًا سوى جملة واحدة:
“دقيقة وبرجع.”

منذ ذلك اليوم، صار بيت أم فايز محطة للغرباء.
رجال غريبون، وجوههم لا تعرف الرحمة، يطرقون بابها ويهمسون:
“نعرف مكانه.
بس الأمر بده مصاري.”

كانت تصدّق…
وتبيع.

باعت الأرض أولًا، الأرض التي ورثها فايز عن أبيه، أرض القمح والعرق والغبار الطيب.
كانت تقول لسماسرة السجون:
“خذوها… بس رجعولي ابني.”

ثم باعـت عفش البيت:
السجادة التركية التي أهداها لها زوجها يوم زواجهم،
اللحف،
الفناجين،
صندوق الخشب الذي تحمل فيه النساء ثيابهن.
باعته قطعة قطعة، وكلما خرج غريب من عندها وفي يده شيء من بيتها، كانت تقول لنفسها:
“هذي الخطوة رح تقرّبني منه.”

لكن لم يقترب شيء.
والأخبار كانت دائمًا معلّقة بين:
“يمكن…”
و
“ما منعرف…”
و
“بدها وقت… وبدها مبلغ جديد.”

وهكذا انسلخ جلدها مع السنوات العشر،
وصارت تجوب فروع الأمن كما يجوب الشحاذون الطرقات.
كانت تدخل مكتب الضابط بانحناءة مريرة، وتقول:
“ابني فايز… نزل لحظة من عشر سنين… بدي أعرف وينه.”

وكانوا يشيحون بوجوههم كأنها هواء.

حين سقط الدكتاتور،
حين فتحت السجون مثل جروحٍ تنزف أسماء بلا وجوه،
كانت أول من وصل إلى سجن صيدنايا.

حملت صورة فايز أمام صدرها كدرعٍ مكسور،
وراحت تمشي بين الحشود، تغير اتجاهها كلما سمعت صرخة أم أخرى.
كانت تبحث في الأوراق، تلمس الأسماء بباطن أصابعها،
وتحاول أن تتخيّل شكل الحروف كي تعرف إن كان اسمه مخبّأ بينها.

قالوا لها:
“اسألي عن السجن الأحمر.”
سألت.
فقيل لها:
“ما انفتح… وما حدا بيعرف شو كان في داخله.”

نامت ثلاث ليال أمام بوابة الحديد.
كانت تشعر أنه يسمعها.
كانت تضع خدّها على التراب وتهمس:
“يمّه… إذا ما قدرت أضمّك وأنا عايشة… خذ من روحي شوي.”

وفي تلك الليلة الرابعة،
سمعت كلامًا من رجلٍ كان يتهامس مع الجماهير:
“في مقابر جماعية حوالين البلد.
اللي ما لقاه هون… يمكن يلاقي أثره هناك.”

هكذا بدأت رحلة جديدة من العذاب.
صارت أم فايز تتنقّل بين الحفر التي اكتشفت بعد الحرب،
تفتش في العظام،
في الخرق القديمة،
في الأسنان،
في المفاتيح الصدئة التي يجدونها بجوار بعض الجثث.

كانت تقف عند الحفرة وتنادي باسمه وكأن صوتها يمكن أن يوقظ الموتى:
“فايز… يمّه… هذا وقت ترجع.”

لكن الحفر كلها كانت تُرجع الصدى… لا الإجابة.

وفي أحد الأيام،
وجدت حبلاً كان يُستخدم للمشانق.
أمسكته بيدين مرتجفتين،
رفعته،
ثم وضعته حول رقبتها—لا لتنتحر، بل لتشمّه.
كانت تريد رائحة تُشبهه،
أثرًا واحدًا فقط يشبه جلده أو عرقه.
قالت وهي تبكي:
“يمكن… يمكن فايز مرّ من هون.”

لكن حتى الحبل كان صامتًا.

صباح اليوم…
وقعت أم فايز على باب بيتها بعد أن أنهكها المشي، والدمع، والسماسرة، والمقابر، والليل الطويل.
ماتت كما تموت النار حين تنفد آخر جمرة فيها.

قالت النسوة اللواتي حضرن الجنازة:
“ماتت من القهر.”
وقال شيخ القرية:
“ماتت وهي واقفة على باب الحقيقة.”
لكن لا أحد عرف الحقيقة إلا هي:

ولد خرج لدقيقة… ولم يعرف طريق الرجوع.
وأم ظلّت تبحث عنه بدقيقةٍ من الروح… حتى انتهى عمرها.

*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى