
من الصعب أن يضع الإنسان تفاصيل حياته بين أسطر، لنجد أن هذه الحياة هي حياتنا جميعاً، أو هي نسخة مكرّرة مما نعتقد أنها ليست سيرةً ذاتيةً فقط لكاتبها، إذ يمتزج الشخصي بالعام، والذاتي بالمجموع، كما فعل إدوارد سعيد في “خارج المكان”، أو صلاح خلف “في فلسطيني بلا هُويَّة”، أو شفيق غبرا في “حياة غير آمنة”.
كرّر ماجد كيّالي التجربة نفسها في “مدوَّنة ليست شخصية… من دفاتر الزمن الفلسطيني السوري” (دار كنعان، دمشق، 2025)، فرغم ما تحمله تلك المدوَّنة من تأملات تتجاوز الفرد، تظلّ بمنزلة شهادة ذات طابع حميم، توثّق تجربةً إنسانيةً خاضها بصدق ووعي عميق. فهي ليست فقط انعكاساً لمسار فكري تشكّل في المنفى، بل أيضاً بوح ذاتي بلغة شفّافة، تمزج بين العاطفة والتأمّل، وتمنح القارئ فرصةَ ملامسةِ الذاكرة الفردية بوصفها مرآةً لذاكرة جيل كامل عاش التغريبةَ الفلسطينية بتفاصيل مختلفة ومستويات متعدّدة.
لا يمكن فصل سيرة الفرد الفلسطيني عن السردية الجماعية
هي ذاكرة جمعية، نعم، لكن وجوهها متعدّدة، فالفلسطينيون في الشتات لم يعيشوا التجربة، رغم كل عوامل الربط الوثيقة والعميقة والشجيّة. بعضهم وُلد في المخيّمات، حيث تُصبح الهُويَّة الوطنية جزءاً من يوميات البؤس والمعاناة والمقاومة، فيما نشأ آخرون في بيئاتٍ مدينيةٍ أكثر استقراراً نسبياً، من دون أن يُعفَوا من وجع المنفى والتشرّد، والحنين إلى وطن مُتخيّل. فالكاتب من مواليد حلب التي احتضنت مخيَّمَيْن فلسطينيَّيْن، لكنّه لم يكن أحد سكّانهما، ومع ذلك لم يكن بعيداً من الأسئلة الكبرى للهُويَّة والانتماء والحقّ، إذ اكتشف فلسطينيته في أماكن سكنه، وفي المدارس التي ارتادها، في البيئة السورية ـ الحلبية، وواجه تغريبته من موقع مختلف، ما يمنحه صوتاً مميزاً داخل التجربة الفلسطينية.
من يقرأ صفحات الكتاب (248 صفحة)، وتحديداً القسم الأول منها، يضعنا أمام مفارقة مقصودة من الكاتب، إذ يعيد فيه تأكيد سيرة الفرد الفلسطيني لا يمكن فصلها عن السردية الجماعية، بل يمكن القول إن الكاتب، في هذه الصفحات، لا يروي حكايته فقط، بل يقترب من التعبير عن تجربة شريحةٍ واسعةٍ من الفلسطينيين الذين عرفوا الوطن من خارجه، وحملوه في داخلهم كما لو أنه جزءٌ لا ينفصل من تكوينهم الشخصي. فإنّ نفي الطابع الشخصي في عنوان كتابه لا يلغي شخصيتها الغارقة في ذاتها، وآلام غربته الطفولية المركّبة طفلاً فلسطينيّاً بين مئات من السوريين، بل يكشف أن التجارب الإنسانية في الحالة الفلسطينية هي سيرةٌ شخصيةٌ يمكن لكل فلسطيني أن يشعر بأن الكاتب تقمّص حياته وتجربته.
يأخذنا الكاتب في سيرته (في الباب الثاني) إلى رحلاته (أو زياراته) إلى فلسطين، مع فيض من مشاعر، إذ تطأ قدماه للمرّة الأولى أرض وطن، لا حلماً، كما كانت سورية أيام حرب النظام الأسدي على الشعب السوري ومنع معارضين من الدخول إليها، بل واقعاً يطؤه بجسده وروحه.
“من اللدّ إلى اللدّ” ليست رحلةً جغرافيةً فقط، بل لحظة تشظٍّ داخليٍّ، حين تلتقي الذاكرة التي تشكّلت في المنفى مع الأرض التي لم يعرفها إلا من الحكايات. أربع زيارات اختزنها الكاتب في عينيه أولاً، وهو يراها غير مصدّق أن هناك حيث السماء صارت بين يديه غيمةً من شعر. صوره تتناثر في صفحته بين خطوة وأخرى، وكان قلبه قبل قلمه يكتب: أنا في فلسطين في أرضي. لكن تُرى هل أتعبه الألم أن جواز السفر الأميركي هو ما جعل حلمه واقعاً فيهبط في مطار مدينته اللدّ (صار اسمه مطار بن غوريون)، وقد بدت له المدينة مخيّماً كبيراً، خافت الصوت، وهي لا تزال تصرخ بِصمتها عن “مذبحة جامع دهمش” التي حاول التاريخ طمسها، كأنّ الزمن انقلب على نفسه، والحقائق تلبس أسماء مغتصبيها.
في حيفا، التي ما زالت تحتفظ بأطراف حلم يحوم في مخيّلته، رأى المدينة الأجمل، الأقرب إلى تلك المرسومة في خياله. أمّا عكّا، التي يداعبها التاريخ كأنّها طفلته، فلا تزال هيَ هيَ، كما كلّ الكتب التي تنافست على مديحها، على عكس القدس، المثقلة بالقيد، المنقسمة على نفسها، كأنّها تصرخ باحثةً عمن ينقذها.
في الباب الثالث، بعد رحلة شاقة من العمل السياسي، ثمّ هجره، وجد الكاتب ملاذه الأخير في الكتابة والكتب، وهي التي رافقته من حلب إلى دمشق، ومنها إلى نيويورك، وبات اسمُه من أبرز أقلام الفلسطينيين في الشتات. لم تكن الكتب عنده زينة رفوف، بل كانت زاداً يقتاتُ منه، ويبني رفوفه واحداً بعد آخر، إلا أن الترحال أنهكه، فقرّر التخلّي عنها، وهجرها في كل مكان يغادره.
ليست “مدوَّنة ليست شخصية” لماجد كيالي فقط انعكاساً لمسار فكري تشكّل في المنفى، بل أيضاً بوح ذاتي بلغة شفّافة، تمزج بين العاطفة والتأمّل
ومع اندلاع الثورة السورية في 2011، أُغلقت عليه أبواب الشام، المدينة التي منحته الدفء والمنفى معاً، فازدادت غربته اتساعاً، وصار تنقّله بين العواصم أقرب إلى التشرّد منه إلى السفر. من دمشق إلى نيويورك، ومنها إلى إسطنبول، ثمّ برلين. ومع ذلك، ظلّ قلمه يقاوم، يكتب لا ليستقرّ، بل ليبقى، وليمنح من بقوا في الظلّ شيئاً من ذاكرة لم تنكسر. ثمّ عاد إلى دمشق (2025)، بعد تحريرها من رجس القتلة والمستبدّين، حاملاً ذكرياته عن كل مكان في المنفى، وكل مكان في أحياء دمشق قبل الثورة وبعدها.
لم ينسَ كيّالي شخصيات أثّرت فيه، أو أصدقاء درب عايشوا تجربته على مرّ السنين، وغادروا الحياة، فكتب عن سيرتهم، وعلاقته بهم، وما يميّزهم، ومنهم ماجد أبو شرار وحنا ميخائيل وفيصل حوراني وميشيل كيلو وأحمد بهجت، على سبيل المثال.
“مدوَّنة ليست شخصية”، ليست مجرّد سيرةٍ مبعثرةٍ في فصول، هي دفتر حياة كتب بحسّ إنساني مُرهف، ويمكن لكل فلسطيني أن يجد فيه بعضاً (أو كلّاً) من تفاصيل سيرته، وسيرة شعب عاش شتاته ومعاناته وقصة كفاحه، كما لم يحدث لغيره.
المصدر: العربي الجديد






