
لم يكن انتخاب زهران ممداني لرئاسة بلدية نيويورك مجرّد مفاجأة انتخابية، باعتباره كان أقل المرشّحين حظوظاً للمنصب، في ظل الانقسام حوله حتى في داخل الحزب الديمقراطي المفترض أنه يمثله، بل كان الانتخاب مؤشّراً إلى بدء تحولات جديدة في المجتمع الأميركي في زمن سيطرة الرئيس دونالد ترامب انتخابياً قبل عام. ففي مثل هذا الوقت من العام الماضي حقق ترامب انتصاراً كاسحاً على منافسته الديمقراطية كامالا هاريس. ولم يكن الانتصار في أصوات المجمع الانتخابي فقط، بل أيضاً في الأصوات عامة على مستوى الولايات المتحدة، وهو حدث لم يتكرّر كثيراً في تاريخ الولايات المتحدة.
ولعل هذا ما دفع ترامب إلى بدء الحديث عن إمكان تعديل النظام الانتخابي للحصول على ولاية ثالثة. لم يقتصر هذا الحديث في تلك الفترة، بل كرّره في أكثر من مناسبة، وكان آخرها بعد انتخابات حكام الولايات وفوز أكثر من مرشّح ديمقراطي في عدة ولايات، ومنهم زهران ممداني.
هاجم الرئيس الأميركي نظام التصويت في الانتخابات، وحمّله ضمنياً مسؤولية الخسارة الجمهورية لعدد من الولايات، من دون أن ينسى إلقاء اللوم على الديمقراطيين بسبب الإغلاق غير المسبوق للحكومة الفيدرالية، والذي اقترب من يومه الأربعين. رغم أن الإغلاق كان بسبب الخلاف الجمهوري والديمقراطي على خطّة إنفاق تحافظ على التمويل الحكومي، بسبب تعنّت ترامب وسعيه إلى قطع الوظائف الحكومية، بناء على الخطّة التي وضعها له إيلون ماسك، قبل اختلافه مع ترامب.
غير أن محاولات ترامب لتبرير الهزيمة لا تتسق مع الوقائع التي أظهرتها النتائج الانتخابية، والتي تؤشّر بوضوح إلى أن هناك انقلاباً في بعض الولايات الأميركية على النهج الذي يحاول الرئيس الأميركي إرساءه.
يمثل زهران ممداني كل ما هو مناقض لتوجهات ترامب، المفترض أنه انتُخب على أساسها، فممداني المنحدر من أصول أفريقية هندية ومن أصول مسلمة وصل إلى المنصب في ذروة الحملة التي يشنها ترامب على المهاجرين، وإلى حد ما المسلمين، حين هاجم عمدة لندن، صادق خان، باعتبار أنه يحوّل العاصمة البريطانية إلى دولة إسلامية، ويغير طبيعة أهلها، وهو ما عمّمه أيضاً على معظم المهاجرين الذين يعتدون على القيم الغربية.
ورغم أن صناديق الاقتراع في نيويورك وديربورن، حيث فاز ممداني في الأولى وعبد الله حمود ذو الأصول اللبنانية في الثانية، ردّت على توجهات ترامب، أصر الأخير في “خطاب الهزيمة” على المضي في إجراءاته المناهضة للهجرة، غير آبه بمؤشرات تراجع تأييد توجهاته.
ولا يقف الأمر على رفض سياسة ترامب تجاه الهجرة، بل يتعدّاه إلى تحدّي صعود اليمين المحافظ في الولايات المتحدة، والذي لم يبخل أثرياؤه في ضخ ملايين الدولارات لضمان سقوط ممداني في نيويورك، فالأخير يمثل كل ما يعارضه هؤلاء، ليس في ملف الهجرة فقط، بل أيضاً في دعم الحريات الدينية والجنسية، إضافة إلى معارضته العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة. حتى إن العمدة الجديد لم يتوان عن التلميح إلى إمكان اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في حال زيارته نيويورك، بناء على قرار المحكمة الجنائية الدولية، باعتبار أن الولاية “ستنفذ القانون”. وهو ما دفع الإعلام في إسرائيل إلى مهاجمة ممداني، ودعوة يهود نيويورك إلى الهجرة منها.
على هذا الأساس، لا يمكن النظر إلى انتخاب ممداني وغيره إلا على أنه شبه انقلاب داخل المجتمع الأميركي على التوجهات التي وصل عبرها ترامب إلى الرئاسة. وهذا من الممكن أن يترسخ في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2026، والتي ستحدّد مصير ما تبقى من ولاية ترامب.
المصدر: العربي الجديد






