
بعد أسابيع من فشل المفاوضات للتوصّل إلى اتفاقية للحدّ من استخدام البلاستيك، ينطلق أمام أنظار العالم فولكلورٌ تفاوضيّ جديد، جاء ليؤكّد ما كان ينبغي تجنّبه. يبدو مؤتمر الأطراف الثلاثين (كوب 30)، من 10 إلى 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري في بيليم البرازيلية، أقرب إلى تصدير العجز منه إلى تأكيد قدرة الدول على قيادة التغيّر المناخي. قبل أيّام، لم يكن انطلاق مجموعات من السكّان الأصليين من مناطق في أميركا اللاتينية في الأسطول البحري “ياكو ماما” نحو بيليم سوى رسالة رمزية من شعوبٍ مسلوبة الموارد، تندّد بتفاوتات ظالمة في تحمّل فاتورة التغيّر المناخيّ، وهي محصّنة بشرعيّة أمميّة يفترض بها تحقيق العدالة المناخية، عبر اتفاقيات متلاحقة منذ العام 1992، تاريخ انعقاد قمة ريو. تأسيساً على هذا المشهد، تحدّيات جدّية ستحول دون سلوك “كوب 30” مساراً عادلاً ومنتجاً، أسوة بالمحادثات السابقة.
لن تنجح الدول في الحدّ من ارتفاع حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية، لأنّ خطط هذا العام ستخفّض الانبعاثات بنسبة 10% فقط، بينما المطلوب خفضها بنسبة 60%
بداية، ينمّ تعاطي البلد المضيف مع قضايا المناخ عن تناقضات لا يمكن تجاهلها. تستضيف البرازيل محادثات المناخ لأهداف عدّة، أهمها احتواء التهديدات المركّبة التي تحدق بغابات الأمازون، المُكنّاة بـ”رئة الكوكب”، والدولة نفسها قبل أشهر قليلة (يونيو/ حزيران الماضي) أجرت مزاداً لبيع تراخيص التنقيب عن الوقود الأحفوريّ، وهو أهمّ العناصر المسؤولة عن الاحتباس الحراري، في 172 منطقة قبالة نهر الأمازون. وتهدف المبادرة إلى تعزيز إنتاج النفط جزءاً من استراتيجية تسعى إلى جعل البرازيل رابع أكبر منتج للنفط. ومن ناحية ثانية، تطلق البرازيل “صندوق الغابات الاستوائية الدائمة” لمكافأة البلدان ذات الغطاء الغابوي الاستوائي الكثيف، التي تحافظ على أشجارها، وتبرّعت بمبلغ مليار دولار من أصل 25 ملياراً من الدول المانحة. ولكن الدولة نفسها تعدّ لإطلاق مبادرة تقضي بمضاعفة استخدام الوقود الحيوي أربع مرات، تحت عنوان “الوقود الحيوي المستدام”، والطرح سيفيد شركات كبرى مستثمرة في تحويل الزراعات والنباتات، خصوصاً الذرة وقصب السكر وزيت الصويا والنخيل، لإنتاج الوقود، وهذا ما يتطلّب توسّعاً في إزالة الغابات من أجل زراعة هذه المحاصيل، لتضاف إلى ملايين الهكتارات من فول الصويا التي تزرع على حساب أشجار الأمازون، من أجل زيادة مساحة الأعلاف للماشية، ودعم تجارة اللحوم البرازيلية.
ألا يمكن تسمية التركيبة بـ”الرياء المناخي”؟… في الأثناء، يسير الكوكب بخطى مسرعة نحو الاشتعال، في مقابل جهود بطيئة مضادّة. هذا ما تؤكّده الأمم المتحدة، في تقرير أخير راجع الفجوة بين اتفاقيات المناخ وممارسات الحد من الانبعاثات، إذ قدّمت 60 دولة فقط من أصل 195 دولة تعهداتها. وفي ضوئها، لن تنجح الدول في الحدّ من ارتفاع حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية، لأنّ خطط هذا العام ستؤدّي إلى خفض الانبعاثات بنسبة 10% فقط، بينما المطلوب هو خفضها بنسبة 60%. ويبدو أنّ الاتحاد الأوروبي هو الوحيد الذي قلّل انبعاثاته في عام 2024، حيث انخفضت بنسبة 2.1%، ولكنّها نتيجة بعيدة جدّاً عن هدفه لخفض الانبعاثات بنسبة 55% بحلول العام 2030. وبينما تتسبّب دول مجموعة العشرين بـ80% من انبعاثات الغازات الدفيئة، تتحمّل الدول النامية وحدها أكلافاً بشرية واقتصادية للكوارث المناخية، والبصمات الكربونيّة للحروب. كما أنّ اتفاق كوبنهاغن للمناخ الذي نصّ على تعهد الدول الغنية بالتبرّع بمائة مليار دولار سنوياً لمساعدة الدول الفقيرة على التكيف، بقي حبراً على ورق. عوضاً عن هذا، تميل هذه الدول إلى بيع الكربون والتكنولوجيا للتخفيف من الانبعاثات، وهذا استثمار تجاريّ وليس تعويضاً.
أكبر ثلاث دول منتجة لانبعاثات الغازات الدفيئة هي الصين، والولايات المتحدة، والهند، لكن التزاماتها المناخية لا تزال رمزية أو تراجعت. المعلوم أنّ الصين تتصدّر المشهد في صناعة معدّات الطاقة النظيفة، لكنّها تعتمد على الفحم الحجري، وتنتج ثلث انبعاثات الكربون العالمية. أمّا الهند، فتبرر اعتمادها على الفحم بحجة “حقها في التنمية”، رافضة تخفيض الانبعاثات. وهذا العام، تخلّت أميركا عن التزاماتها المناخيّة بإعلان الرئيس دونالد ترامب انسحاب بلاده من اتفاق باريس للمناخ، للمرة الثانية، بعد أن اتخذ هذه الخطوة في 2017، قبل أن يعيد بايدن انضمامها. واستتبع ترامب قراره بإقرار سلسلة من الأوامر التنفيذية والسياسات الداعمة لإنتاج النفط والغاز، كما ألغى مبادرات العدالة البيئية التي أقرّها بايدن، كلّ هذا لزعمه أنّ تغيّر المناخ “خدعة”، ويسانده في شعاره مسؤولون تنفيذيون عيّنهم لتعزيز صناعة الوقود الاحفوري.
ولا يقلّ عن هذه الاجراءات خطورةً اندلاع حرب تجاريّة عالميّة بين الصين وأميركا، وتمثّلت في زيادة التعرفات الجمركية من جراء غضب ترامب من المنافسة التجارية، وأهمّ أسبابها احتكار الصين سوق الأتربة والمعادن النادرة التي تُصنَع منها تقنيات عالية الدقة وتقنيات الطاقة المتجددة التي تعتبر أهم ضمائن الانتقال الطاقوي النظيف والمنقذة للمناخ. كما لا يغيب عن الصورة العامّة للمحادثات، وحتّى قبل انعقادها، أنّ مكان انعقاد المؤتمر هو بحد ذاته خيار إقصائيّ، حيث شكّل موقع بيليم تحدّياً بيئياً ومالياً لدول عدّة، ويغيّب بلداناً نامية. لا يشارك لبنان مثلاً في وفد تمثيليّ رسميّ، في قرار لوزيرة البيئة تمارا الزين، لرفض “تبرير المساهمة في زيادة البصمة الكربونيّة، ونحن ذاهبون لمناقشة كيفية تخفيضها”، وهو موقف “نابع من المبدأ، وليس فقط بسبب العوائق المالية واللوجستية”. هذه الأخيرة عبّرت عن أعبائها دول مثل لاتفيا، وليتوانيا، وبولندا، وكذلك تشاد وغامبيا، لأنّ قلّة عدد الفنادق رفعت التكلفة إلى مبالغ ضخمة راوحت ما بين 360 و4400 دولار، وحاولت البرازيل تدارك الموضوع من خلال توفير فنادق بأسعار مقبولة، ولكن عددها محدود.
تتكثّف الدعاية القائمة على “نظرية المؤامرة” النافية مخاطرَ الانبعاثات، وتُنظّم الحملات الإلكترونية المضلّلة وتُموّل الدراسات غير الدقيقة
ولعلّ الصحافيين في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هم الأكثر تأثّراً بارتفاع تكاليف السفر والإقامة، في بيئة إعلاميّة تشكو أساساً اختناقاً ماليّاً، على الأخص منصّات الإعلام البديل غير المدعومة حكوميّاً، والّتي تتبنّى مواقف نقدية من الخطاب السائد. فحتّى جهات دوليّة مثل “شبكة صحافة الأرض” لم تغطّ أي صحافي في المنطقة العربيّة، واكتفت بتمثيل بلدان أقرب جغرافياً في القارة الأميركية والشرق الأقصى وجنوب آسيا. وإلى تقليص الفرص في التغطية الصحافية، حمل العام 2025 تطوّراً خطيراً يهدّد الحق في الوصول إلى المعلومات الموثوقة في قضايا المناخ. لنتذكّر أنّ هذا العام، أعلنت الأمم المتّحدة، في الذكرى الثمانين لتأسيسها، أنّ تقاريرها لا يهتمّ بها أحد، وأنّها تنتج 1100 تقرير سنويّاً، غالبيتها العظمى لا يقرأها أحد. في المقابل، تتكثّف الدعاية القائمة على “نظرية المؤامرة” النافية مخاطرَ الانبعاثات، وتنظّم الحملات الإلكترونية المضلّلة وتموّل الدراسات غير الدقيقة، وفي خلفيتها شركات نفطية أو معنيّة بالصناعات البتروكيميائية، فترصد ميزانيات ضخمة، في مقابل انحدار شامل في ميزانية الأمم المتّحدة.
ومع ذلك، بقي باب التوعية والمراجعة النقديّة مفتوحاً، بفضل جهود معرفية عربيّة مجدّة. واللّافت في هذا المجال، مبادرة “شبكة المنظمات العربية غير الحكومية”، التي يتولّاها الأستاذ الجامعي والصحافي البيئي اللبناني حبيب معلوف في قيادته نقاشات وورش عمل حضورية وافتراضيّة أفضت إلى إعداده “ورقة موقف المجتمع العربيّ” من “كوب 30″، والتي تشكّل مرجعاً وفيراً لهذا المقال. محاولة لإحداث ثقب في جدار الممارسات المنحازة، من مجتمعات عربيّة لا تزال من الأكثر ظلماً وتهميشاً في معادلات المناخ.
المصدر: العربي الجديد






