
أكثر ما كان لافتاً في افتتاح المتحف المصري الكبير، قبل أيام، الحضور النسائي الطاغي والمُدهش والمُفرح في الحفل، إلى درجة تشعر معها كما لو أن الرجل كان مغيّباً قصداً لصالح الحضور النسائي، سواء في الاستعراضات أو في الأداء الغنائي أو في الفرقة السيمفونية. وفي الحقيقة، لحضور المرأة المصرية عموماً في الشارع المصري، وفي الفضاء العام، ثقله الواضح؛ فهي عمود المجتمع المصري حرفياً، رغم محاولات مجتمعية لتهميشها أو حصرها في النسق الأضعف، أو تأطيرها ضمن منظومة مجتمعية دينية محافظة، وأحياناً كثيرة متزمّتة، لكنّها تمكّنت من النجاة من ذلك كلّه، وفرضت حضوراً قوياً في المجتمع وسوق العمل والسياسة والثقافة والفنّ، من دون أن تترك للقيود الاجتماعية أن تتحوّل أداة قمع مضافة إليها، فهي موجودة في كل المجالات وهي محجبة مثلاً، حتى في مجالات يعتقد بعضهم أنها تتعارض والحجاب.
هذه قوة استثنائية تسجّل للمرأة المصرية أولاً، وللمجتمع المصري بشقّيه الرسمي الحكومي والشعبي. والحال أن الحضور القوي للمرأة المصرية في المجتمع أحد أهم الأسباب في تماسكه واستقراره رغم الأزمات التي مرّت في هذا المجتمع.
لا يشبه حضور المرأة المصرية في شيء حضور المرأة السورية، لا سابقاً ولا حالياً. ثمّة اختلافات وفروق واضحة لا ينتبه إليها إلا من عاش في المجتمعَين، واختبرهما. لم يكن حضور المرأة السورية في ظل حزب البعث تحت حكم الأسد الأب والابن يتعدّى الحضور الديكوري الذي ابتدأ مع بداية “البعث” وشعار تحرير المرأة، لكن هذا الشعار لم يكن بقصد المساواة ومنح المرأة السورية حقوقها (القوانين السورية حتى اللحظة مجحفة بحقّ المرأة، بدءاً من التساهل مع جرائم الشرف، وليس انتهاء بنفي حقّها في منح أولادها وزوجها الجنسية السورية)، بل بقصد توسيع قاعدة الولاء للسلطة لا أكثر. ومع أن النظام فتح المجال للمرأة بالتعليم والعمل ووضع “كوتا” للوظائف الحكومية، إلا أنه تركها تحت وصاية البنية الأبوية المُنتِجة للسلطة الذكورية في القوانين والمجتمع. ولم تنفع زيادة عدد النساء في الحضور العام السوري لاحقاً، لا سيّما في مجالات الفنون والثقافة والإعلام، ولا تقديمها دليلاً على ليبرالية النظام، فهي بقيت ملحقةً بالرجل، أمّاً وابنة، وزوجة فلان من الناس. هي ليست حاضرةً إلا رمزياً، سرديةً للسلطة، ولم تكن حاضرةً بوصفها كائناً مفرداً ومستقلاً. هذا أيضاً كان واضحاً في الشارع الشعبي السوري بين مختلف مكوّنات المجتمع.
لم يكن حضور المرأة السورية أصيلاً، ولم يتحوّل ديناميكيةً تحفر في المتن. بقيت في الهامش ديكوراً يُباهى به في المشهد الإعلامي. تغيّر الوضع قليلاً في عام 2011، حين ظهرت حقيقة السوريات: سيدات مستقلّات مناضلات قادرات على الوقوف في الأنساق الأولى للحياة العامة. أظهرت الحرية جوهر المرأة السورية، لكن السلاح وانتشار الفصائل الجهادية والحرب دمّرت البنية المجتمعية التنويرية التي ولدت مع الثورة، وتمكّنت من إعادة المرأة السورية خلف الأنساق كلّها، وهو ما يتجلّى اليوم في الغياب الكامل لحضورها، في كل ما له علاقة بالجانب الرسمي الحكومي والعمل السياسي والثقافي والإعلامي العام. المشهد العام الراهن ذكوري مرتّب بقصدية واضحة، ومغطّى بطبقة نسوية لا تستطيع أن ترى نفسها مستقلّةً وخارجةً عن الذكورية السياسية والمجتمعية.
في المرحلتَين السوريَّتَين، تغيب المرأة من الفعل، وتغيب من التأثير، ليس بسبب المجتمع الأبوي الذكوري فقط، بل أيضاً لأن سورية لم تكن يوماً دولةً حقيقيةً بمؤسّسات منجزة، ولم يكن فيها حضور للمجتمع المدني الذي لا يستقيم إلا بمشاركة نسوية فاعلة. على العكس من مصر، دولة المؤسّسات الحقيقية التي لطالما كان للمجتمع المدني فيها دوره المؤثّر الذي انعكس على حضور المرأة القوي والبارز والواضح. من دون أن ننسى السياقات التاريخية منذ عهود المصريين القدماء العامرة بالحضور النسائي حتى العصر الحديث، وهو ما لم يكن واضحاً في سورية، فحضور المرأة الآشورية والفينيقية لم يكن بقوة حضور المرأة المصرية القديمة، وبالتالي لم يتراكم هذا الحضور في الذاكرة الجمعية للسوريين عبر التاريخ.
على أمل أن يكون المستقبل السوري مزدهراً عبر حضور نسوي تشاركي وفاعل ومؤثّر.
المصدر: العربي الجديد






