
لم يعد الموفد الأميركي توم براك مجرد وسيطٍ يعالج ملفاً إقليمياً محدوداً، بل بات عنواناً لطريقة تفكير إدارة الرئيس دونالد ترمب في مقاربة أزمات الشرق الأوسط.
فالرجل، الذي تولّى أخيراً إدارة الملفات الشائكة في سوريا ولبنان، يبدو كمن يمارس الدبلوماسية على إيقاع العاصفة، مدفوعاً برغبة واشنطن في إعادة هندسة المنطقة على قواعد جديدة لا تشبه ما بعد “سايكس بيكو”، بل تتكئ على الولاءات الطائفية والعشائرية والقومية كأساس لإعادة ترتيب السلطة والنفوذ.
وقد نجح برّاك في نسج خيوط علاقة وثيقة مع السلطة الجديدة في دمشق، وتحديداً مع الرئيس أحمد الشرع، في إطار مقاربة أميركية براغماتية لاحتضان النظام السوري الجديد سياسياً، ولكن من دون اعترافٍ رسمي مباشر.
أما في الملف اللبناني، فالأمر كان أعقد بكثير. فقد اصطدم براك منذ البداية بمنافسة داخل الإدارة نفسها، ولا سيما من مورغان أورتاغوس التي أبعدت مؤقتاً ثم عادت بقوة لتتولّى الملف اللبناني من موقع أكثر قرباً من البيت الأبيض. ومع أنّ باراك حاول فرض إيقاعه الخاص، إلّا أنّ أداءه لم يحقّق أي اختراق ملموس. وتصريحاته المتكررة التي وصف فيها لبنان بأنه “واجهة بحرية لسوريا” جاءت في سياق الضغط السياسي، لكنها عكست في الوقت نفسه نظرة واشنطن المتنامية إلى لبنان كامتداد للأزمة السورية لا ككيانٍ مستقل في توازناته.
ومع انتهاء مهمته اللبنانية رسمياً، بدا واضحاً أنّ التنسيق الأميركي–الإسرائيلي اختار التعامل مع لبنان من خلال أورتاغوس والسفير الجديد ميشال عيسى، بعد تحفظات إسرائيلية على توماس باراك الذي يُتهم بالقرب من الأتراك وتماهيه معها في مقاربتها للملف السوري. هذا الانفكاك
النسبي سمح له بالحديث بحرية أكبر، فخرج بسلسلة مواقف حادّة منذ أسبوعين، بلغت ذروتها في حوارات المنامة، وأظهرت بوضوح التحول في اللهجة الأميركية تجاه الدولة اللبنانية. فقد صنّف برّاك لبنان كـ”دولة فاشلة”، واعتبر “حزب الله” أقوى من مؤسساتها، ملمّحاً إلى أن واشنطن لن تواصل الانخراط في ملفٍّ يختلط فيه الإرهاب بالانهيار، ومهدداً بشكل غير مباشر بأن الوقت بدأ ينفد.
تغريدته الطويلة التي سبقت تصريحاته في المنامة حملت تحذيراً من احتمال عودة الشارع اللبناني إلى الثورة والانتفاض على غرار أحداث تشرين الأول 2019 وما تبعها من أحداث أفرزت ما أفرزته بالسياسة والاقتصاد والمجتمع، في حين ترافقت تلك الإشارات مع تحليقٍ متكررٍ للطائرات الإسرائيلية فوق القصر الجمهوري والسراي الحكومي، ومع تصريحات متوترة من وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس ضد حزب الله والجيش اللبناني. وكل ذلك يوحي بأنّ شيئاً ما يجري التحضير له في كواليس القرار الإسرائيلي.
أما أورتاغوس، فاختارت أن تتحدث بلغة البيانات لا التسريبات. فقد أصدرت السفارة الأميركية بياناً رسمياً حدّدت فيه مهلة شهرين فقط لإنهاء ملف سلاح حزب الله في كامل الأراضي اللبنانية، مشيدة بالجيش اللبناني لكنها تجاهلت الحكومة ورئيسها تماماً، في رسالة واضحة بأن واشنطن باتت تتعامل مع الجيش كقناة التنفيذ الوحيدة الموثوقة والشريك الذي تستثمر واشنطن في دعمه، والذي حصل هذا العام على أكبر المنح في تاريخه.
مطلع العام الجديد سيشهد بدء محاكمة نتنياهو بقضايا الفساد وفتح تحقيق رسمي في كارثة 7 أكتوبر، وسط تراجع الثقة الشعبية بحكومته واستمرار الهجرة العكسية من إسرائيل.
وفي خلفية هذه المواقف، يسود انطباع متزايد داخل واشنطن بأن الحلول في لبنان لن تأتي إلا تحت النار انسجاماً مع رؤية ترمب القائمة على التفاوض بالقوة. ويبدو أنّ تيار ترمب–نتنياهو في البيت الأبيض بات يراهن على تحقيق توازنٍ جديد عبر استخدام الضغط العسكري تمهيداً لمسار تفاوضي لاحق.
فالبرنامج الأميركي تجاه لبنان دخل في مرحلة تجميدٍ عملي، بانتظار ما ستسفر عنه الشهور المقبلة من تطورات ميدانية وسياسية، وتتزامن هذه المرحلة الحساسة مع مهلة الشهرين التي تحدثت عنها أورتاغوس، والتي تتقاطع زمنياً مع سلسلة محطات إقليمية ودولية مهمة، وهي المرحلة الثانية من اتفاق غزة، وزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى البيت الأبيض والتي ستشمل جولته دول متعددة بما فيها الصين وبريطانيا، ثم زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لواشنطن، إضافة إلى زيارة بابا الفاتيكان إلى بيروت.
كما أنّ مطلع العام الجديد سيشهد بدء محاكمة نتنياهو بقضايا الفساد وفتح تحقيق رسمي في كارثة 7 أكتوبر، وسط تراجع الثقة الشعبية بحكومته واستمرار الهجرة العكسية من إسرائيل. كل ذلك يجعل من نهاية العام الحالي فترة إعداد دقيقة لاحتمال تحوّلٍ كبير في الملف اللبناني.
الظروف الداخلية في الولايات المتحدة قد تمنح نتنياهو هامش حركة إضافياً. فالانتخابات التشريعية المحلية تشكّل اختباراً لشعبية ترمب بعد مرور عام على عودته إلى البيت الأبيض. وبرغم أنها لا تؤثر مباشرة على الحكومة الفدرالية، فإن نتائجها ستُقرأ كاستفتاء على أداء الحزب الجمهوري قبل انتخابات الكونغرس المقبلة.
يمكن قراءة زيارة وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب جون هيرلي إلى بيروت، كجزءٍ من سياسة الخنق المالي الهادفة إلى عزل حزب الله عن إيران.
وخلال الأشهر الماضية، لم يتمكّن ترمب من تحقيق وعوده الاقتصادية، في حين بقيت مؤسساته الدبلوماسية مرتبكة حيال الشرق الأوسط، لا سيما بعد تراجعه في اللحظة الأخيرة عن تعيين جويل رايبورن مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى. وهذا التراجع فُسّر بأن ترمب يفضّل إبقاء سياساته غامضة ليحافظ على عنصر المفاجأة في المفاوضات، فلا أحد يعلم إن كانت خطوته المقبلة دبلوماسية أو تصعيدية.
على هذا الأساس، يمكن قراءة زيارة وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب جون هيرلي إلى بيروت، كجزءٍ من سياسة الخنق المالي الهادفة إلى عزل حزب الله عن إيران. ومع انخراط الإعلام الأميركي في حملة متزامنة مع الإعلام الإسرائيلي حول استعادة حزب الله لقدراته العسكرية
والصاروخية، ويبدو أن مرحلة التمهيد الإعلامي والسياسي لأي عمل عسكري ضد لبنان قد بدأت فعلاً، والأسوء أن الحزب عاد لممارسة سياسة التفاخر العسكري والتي دفع ثمنها في الحرب الأخيرة.
ويبدو أن السؤال الجوهري هنا لا يتعلق بعودة الحرب بحد ذاتها، بل بالهدف السياسي الذي يُراد منها. فهل تسعى واشنطن وتل أبيب فعلاً إلى إنهاء نفوذ حزب الله، أم إلى إطلاق مرحلة جديدة من إعادة تشكيل المشهد اللبناني، والأرجح أن ما يجري ليس خاتمة أزمة، بل مقدمة لفصل استراتيجي جديد، تُرسم ملامحه بالنار وبالرسائل المتبادلة على امتداد المنطقة.
المصدر: تلفزيون سوريا






