
منذ بناء الدول الوطنية العربية الهشة ما بعد الاستقلال، وفق الخطوط الجيوسياسية التى رسمها الاستعمار الغربى، لم تستطع النخب السياسية فى هذه البلدان، أن تؤسس لبناء وطنيات متبلورة وموحدة، وهويات ناضجة فى تخييلاتها السياسية والرمزية، ومن ثم تشهد هذه المجتمعات صراعات هوياتية قاتلة ومتجددة –على نحو ما وصفها امين معلوف-، ومرجع ذلك عديد الاعتبارات، يمكن تحديد بعضها فيما يلي:
1- استصحاب قادة الاستقلال الوطنى وحلفاءهم فى هيكل السلطة، وقاعدتها الاجتماعية، المكون العائلى والقبلى، والعشائرى، والدينى والمذهبى والعرقى الذي ينتمون إليه فى سياساتهم، وقراراتهم، ونسبته إلى الوطنية مجازًا، لأن هذا المكون الاجتماعى، هو قاعدتهم الاجتماعية، وسندهم السياسى الفعلى فى دعم السلطة الحاكمة.
2- فشل سياسات الاندماج الوطنى التكاملية، لاعتمادها على استراتيجية بوتقة الصهر المعتمدة على قوة أجهزة الدولة القمعية، الأمنية والاستخباراتية علي نحو ما تشير إليه تاريخيا الحالة الأمنية السورية،التي أظهرت تداخل أجهزة الاستخبارات الأمنية فى القوات الجوية، وغيرها بالأمن الداخلى، والاعتقالات ، وهو أمر خارج عن نطاق اختصاصاتها الأساسية ، التى تدور حول أمن القوات الجوية، ومصادر التجسس عليها من الدول الخارجية، مثل إسرائيل وتركيا، وغيرها من الدول التى يعتبرها النظام معادية، أو حتى دول الجوار الجغرافى السورية، وتمثل تهديدًا للأمن القومى السورى، إلا أنها تحولت إلى أحد أدوات القمع الداخلى ، وأحد أسباب ذلك، أن قاعدة النظام مؤسسة على تحالف أقليات دينية، ومذهبية و”طائفية” متعددة مع اقصاءات للأغلبية السنية، ومكونات أخرى.
من ناحية ثانية: تركيز نظام الأسد البعثي فى بناء التحالفات المذهبية والدينية والطائفية على عناصر موالية له داخل هذه المكونات مع استبعاد فعلى لقواعدها الأساسية. من ناحية ثالثة: توظيف إيديولوجيا حزب البعث القومية العربية كقناع إيديولوجي رمزى، لستر سياسات القمع الداخلى العنيف، وأيضا فى صراعاته الأقليمية، وتداخله فى الشأن اللبنانى السياسى الطائفي.
من ناحية رابعة: أدى ذلك إلى تنامى الهويات المتخيلة للمكونات السورية المختلفة، من خلال إحياء الرموز والوقائع التاريخية لكل مكون منهم ، وتاريخهم الخاص، واستدعاءات لصراعاتهم التاريخية مع المكونات الأخرى، فضلًا عن ثقافاتهم الخاصة، وعناصرها فى الموسيقى والغناء، والمأكل والمشرب، وطقوسهم الاجتماعية، ومكونات ثقافاتهم الخاصة، كمصادر لبناء هوياتهم المتخيلة عن الهويات الأخرى للمكونات المختلفة للشعب السورى.
3- فى الحالة السودانية، المتفجرة، وحربها الأهلية شكل التحيز العرقى، والقبلى، والدينى، والعنصرى لقبائل الوسط النيلى الكبرى إزاء القبائل الأفريقية، لا سيما فى إقليم دارفور، وفى جنوب السودان حتى استقلاله. الأخطر تحول المركزية العرقية القبلية، لمعيار تمايز اجتماعى، وسياسى، وثقافى، وهوياتى يسيطر على كافة المكونات االأفريقية العرقية الأخرى، مع إقصاءات لهم، وتهميش سياسى، واجتماعى، والأهم فى الخدمات، والبنية الاساسية، وهو أمر وسم النخب السياسية السودانية بالفشل التنموى، والسياسى، والثقافى منذ الاستقلال، وحتى الآن.
من ناحية أخرى مع الأسلمة السياسية، تمدد واتسع الفساد الوظيفى والبيروقراطى، وفى الاقتصاد تحت حكم الإسلاميين من حزب المؤتمر الوطنى، وأسلمه قيادات الجيش. من ثم أدى ذلك إلى إقصاءات للقبائل الأفريقية فى دارفور، وغيرها ، ونسيان النخب السياسية والعسكرية تاريخ دخول الإسلام السودان عن طريق التجار والحركة الصوفية إلى دارفور، ومنها الى بقية مكونات السودان، والتمدد الاسلامى فى أفريقيا!
وقع السودان منذ الاستقلال تحت هيمنة القبائل العربية، وثنائية حكمه المدنيين والعسكريين وهكذا فى الحكم، دونما تنمية حقيقة، وشاملة فى كافة المناطق بما فيها الوسط النيلى، وقبائله الكبرى، والصغرى. ثم فشل الانتفاضة الجماهيرية الكبرى التى أدت إلى سقوط نظام عمر البشير، إلا أن الصراعات السياسية بين الجماعات المدنية التى حاولت الاستيلاء على موقع القيادة لانتفاضة الشعب السودانى، ضد الفساد، والهيمنة الدينية الرمزية للإسلاميين، والقمع الدينى لمكونات الشعب السودانى.
الأخطر توظيف قبائل الرعاة الجنجاويد العربية، فى قمع القبائل الدارفورية، والأخطر تشكيل ميليشيات إسلامية كأحد إدوات الدفاع عن النظام، وهو ما يعكس غياب ثقافة الدولة والوعى السياسى بها ، لصالح عقل سلطوى وقبلى ودينى ومذهبى، بديلا عن العقل الدولتى السياسى لصالح العقل القبلى الدينى. من هنا ارتكزت قوات الدعم السريع على العقل الدينى القبلى والعرقى، وباتت أحد أطراف الفساد السياسى، والعنصرية القبلية للسلطة السياسية، وقاعدتها القبلية، ومذهبيتها الإسلامية السنية.
من ثم أدى ذلك إلى انفجار الصراعات الهوياتية والعرقية، والأهم نمو التشكيلات العسكرية فى دارفور، وغيرها من المناطق ذات القواعد الاجتماعية العرقية.
4- أدت الاقصاءات السياسية والاجتماعية لمكونات عديدة فى المجتمعات العربية، إلى الاعتصام بالانتماءات العرقية والمدنية والمذهبية، والقبلية والعشائرية، والمناطقية، وباتت جزءًا من أنظمة التنشئة الاجتماعية للأطفال، والشباب، وتمدد دور الأعراف فى موازاة مع نظام التنشئة السياسية والتعليمية للنظم الاستبدادية، والتسلطية العربية، على نحو جعل من الصراعات الهوياتية جزءًا من المكونات السوسيو-نفسية للأجيال الشابة الجديدة فى المجتمعات العربية.
5- من هنا أدت الصراعات الهوياتية، وسياسة التمييز والإقصاء والتهميش، والفشل فى سياسات التنمية والفساد السياسى، والإداري، والاجتماعى إلى انفجار الحروب الأهلية فى سوريا، واليمن والسودان وليبيا، والصراع المذهبى فى العراق، والطائفى فى لبنان.
6- بعد انهيار نظام الأسد، بدى النظام الجديد يستعرض هويته الأموية، استمدادًا من تاريخ الأمويين ومذهب الأغلبية السنية، مع محاولة سيطرته الهوياتية والعسكرية على المكونات العلوية والدرزية التي طلب احد مراجعها الدينية استقلال المنطقة والمكون الدرزي وطلب تدخل إسرائيل وهو ما عارضه اخرين داخل طائفته ، وقيام احدهم بعملية إرهابية ضد المسيحيين على نحو ما تم لكنيسة فى دمشق. هوية دينية ومذهبية تحاول السلطة الجديدة -،المدعومة من أمريكا وتركيا وإسرائيل ودول عربية نفطية اخري – فرضها على الشعب السورى المتعدد المكونات ، دونما بناء مؤسسات وسياسات للتمثيل السياسى الديمقراطى لهذه المكونات فى نظام جديد، وإنما إعادة إنتاج للنظام البعثي بإيديولوجية دينية سياسية، ومذهبية.
من هنا فشلت النخب السياسية ما بعد الاستقلال، والربيع العربى المجهض فى تشكيل وطنيات عابرة للمكونات الأساسية، وجامعة لها من خلال ثقافة سياسية ديمقراطية، وسياسات للتكامل الوطنى، تؤسس لمشتركات تتجاوز الانتماءات الفرعية للمكونات الدينية والمذهبية، والعرقية، والقومية والقبائلية والعشائرية داخل هذه المجتمعات الانقسامية.
7- الهويات المتنافسة، والمتصارعة، هى هويات متخيلة وفق كل الثقاة المتخصصين في مسألة الهوية ، ومن ثم متغيرة ، فلا توجد هويات ذات مكونات عابرة للمراحل التاريخية، والعصور المختلفة، لأنها تخضع للتحولات، ودخول عناصر ومكونات جديدة دالة على مدى التطور الاقتصادى، والاجتماعى، والسياسى، والتكنولوجى والعلمى، والحريات العامة والفردية، من ثم الهويات هى فى أحد تحديداتها لدي بيير بورديو ، ترتكز على الدولة/ الأمة الحديثة . وهي في تغيرات فى عصر السرعة الفائقة والعولمة ومابعدها ، والثورة الصناعية الرابعة . من ثم بعض صراعات الهوية هى انعكاس مرحلى لأزمات بناء الدولة والوطنية الهشة عربيا، وتعبير عن غياب المساواة والمواطنة، وحقوقها، والتزاماتها إزاء دولة القانون والحق التى لا تزال غائبة غالباً فى الواقع العربى المضطرب.
ستستمر الصراعات “الهوياتية القاتلة” لفترات، لكن فى ظل تحولات كبرى فى عصر الإناسة الروبوتية، ومؤشرات التحول الى ما بعد الإنسان، فى ظل التراجع والتخلف العربى واجيال زد وآلفا وبيتا وروافد التغير التي ستؤثر على مسألة الهويات في المنطقة كلها.
المصدر: الأهرام






