
يتصوّر كاتب هذه السطور أن مفجّري عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) من طلائع المقاومة الفلسطينية الجديدة كانوا أكثر وعياً بصعوبة فعلِ المواجهة التي أطلقوها منذ سنتين، وهم يعرفون أن خياراتهم السياسية (وما أقدموا عليه) تستوعب كثيراً من الشجاعة والجرأة، بحكم متابعتهم اليومية ومعاناتهم من مختلف أنماط العدوان التي يواصلها الكيان الصهيوني فوق أرضهم. ويبرُز في عنوان هذه المقالة وصف “الطويل” طريق تحرير فلسطين.
نتذكّر قبل “الطوفان” انتفاضات الأجيال السابقة من المقاومة الفلسطينية، طوال عقود القرن الماضي، كما نتذكّر نكبتنا وهزائمنا، ونتطلّع إلى أشكال من المواجهة تضعنا في طريق التحرير. وإذا كان من حقّ موقّعي اتفاق أوسلو (1993) أن ينخرطوا في عمليات تجميد مسلسل الاتفاق المذكور، فإن من حقّ المقاومة الفلسطينية أن تواصل التفكير في كيفيات مواجهة صور العدوان الصهيوني، المتمثلة في عمليات الضمّ والاستيطان وتزوير التاريخ، والحلم بإسرائيل الكبرى داخل “الشرق الأوسط الجديد”.
لا تضعنا خطة السلام أمام “شرق أوسط جديد”، بل في قلب زمن المراجعة للتفكير في مآلات ما حصل بعد طوفان الأقصى
من حقّ المقاومة الجديدة تفجير مياه الطوفان لمحو أساطير الصهيونية المرتبطة بالمشروع الإمبريالي الغربي في صوره المتواصلة والمتجدّدة، وقد اتخذت اليوم ملامح مُحَدّدة في “خطّة وقف الحرب”، التي دخلت حيّز التنفيذ يوم 10 من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) بقيادة الرئيس الأميركي ترامب، وهي خطة ترتبط في لغتها وبنودها بجوانب من المشروع الإمبريالي الغربي، في التحوّلات التي تَصِله اليوم بعديد من المتغيّرات الجارية في العالم.
ولأننا نؤمن بأن “طوفان الأقصى” شَكَّل لحظةً مفصليةً في تاريخ مقاومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ومواجهة إرادة الهيمنة الإمبريالية الغربية على المشرق العربي، فإننا لا نثق في مخطّطات وقف الحرب والسلام المُعلَنة في الاجتماعات أخيراً، التي قادتها الولايات المتحدة (10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) في شرم الشيخ، بتوسّط مصر وتركيا وقطر. ونرى أن وقف جرائم الحرب في فلسطين، بعد مسلسل الخراب والتهجير والجوع ومشروع الإبادة الذي تواصل سنتَين، يدعو العرب والفلسطينيين ومختلف الأحرار في العالم إلى إنجاز لحظة مراجعة للتفكير مجدّداً في المقاومة ومشروع التحرير، أي القيام بمراجعة مختلف أبعاد الحدث الذي ترتّبت منه معركة طوفان الأقصى، بكل ما تحقّق عن طريقها من مكاسب ومنجزات، وبكل ما حملته من انكسارات وتراجعات.
عندما يتحدّث ترامب في خطة وقف الحرب وتبادل الأسرى والجثامين عن “سلام القوة”، ويشير إلى أن خطته لا تُنهي الحرب بقدر ما تشير إلى “نهاية عصر”، ليوضّح بكل صلافة أن مشروعه يتوخّى “السلام والازدهار الدائمين” في “الشرق الأوسط الجديد”… حين يتحدّث عن تلك الخطة، فإنه يضعنا مباشرة أمام الوصاية الأميركية على غزّة، الأمر الذي يؤكّد الحاجة إلى لحظة مراجعة قوية تسمح للفلسطينيين والعرب ببناء آليات جديدة في الصمود والمقاومة. لا تضعنا خطة السلام أمام “شرق أوسط جديد” باللغة التي تفضّل أميركا مع الكيان الصهيوني مواصلة التغنّي بها، بل إنها تضعنا في قلب زمن المراجعة من أجل مزيد من التفكير في مآلات كل ما حصل وتداعياته.
تدفعنا لحظة وقف إطلاق النار إلى التوقف قليلاً من أجل مراجعة شاملة لمآلات المشروع الوطني الفلسطيني، ذلك أننا نؤمن بأن التاريخ تصنعه الأحداث والتحوّلات، كما تصنعه المراجعات، بكل ما يرتبط بها من آفاق وطموحات. وضمن هذا الأفق، نتصوّر أن جدول أعمال المراجعة المُنتظَرة يستدعي مواجهة المقتضيات المرتبطة بالمتغيّرات الجارية في العالم، فقد كشفت الحرب العدوانية صور الانهيار الأخلاقي، وانهيار مبادئ حقوق الإنسان، ومحدودية أدوار المنتظم الدولي في الحكم النزيه على ما يجري في العالم. وتستدعي لحظة المراجعة أيضاً القيام بمعاينة تشخيصية ونقدية لمآلات الوضع الفلسطيني، والوقوف، في الآن نفسه، أمام الوضع العربي ومآلات مخططات التطبيع، ومن دون إغفال متغيّرات المحيط الإقليمي وانعكاساتها المحتملة على مشروع التحرير. ونفترض أن عمليات المراجعة المطلوبة مدعوةٌ إلى مواجهة مشروع الإبادة المُقرّر من الكيان الصهيوني، وكل ما حصل من جرائم حرب في فلسطين خلال السنتَين الماضيتَين. ونتصوّر أن مخطط الوصاية المُعلَن في خطة وقف الحرب يدفعنا إلى التفكير في كيفيات مواصلة الصمود. إذ لا ينبغي التفريط في الفعل المقاوِم الذي أعاد القضية إلى الوجود، بعد أن اعتقد الإخوة قبل الأعداء أنها انتهت.
تدرك مكوّنات الحركة الفلسطينية، بمختلف فصائلها، رغم مختلف التحفظات التي عبّرت بها عن موقفها من “الطوفان” وتداعياته، أن تلك المعركة فعلٌ في المقاومة، هو من صنع تاريخ الوفاء للمشروع الوطني الفلسطيني. إنه يستوعب، في روحه وبعض تجلّياته، الخطوات الأولى لميلاد حركة التحرير الفلسطينية، كما يستوعب معطيات عديدة مُستمدّة من روح الانتفاضات الفلسطينية وأهدافها. نعرف ما رافق سنتي الحرب من غليان صامت في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وفي مختلف المدن والقرى الفلسطينية. كما نعرف أن الشباب الفلسطيني الصامد والمُقاوم في غزّة ينتمي إلى أفقٍ في النضال يخصّ الشباب الفلسطيني كلّه، المتطلّع إلى الاستقلال والتحرير. ونعرف نوعية الحضور الذي أصبح للقضية اليوم في كثير من ميادين المدن الكبرى في العالم. ولهذا السبب، نرى ضرورة استكمال رسالة الصمود، ولا يتعزّز ذلك إلا بوحدة العمل الوطني الفلسطيني.
لا ينبغي التفريط في الفعل المقاوِم الذي أعاد القضية إلى الوجود، بعد أن اعتقد الإخوة قبل الأعداء أنها انتهت
لا نتردّد ونحن في زمن المراجعة في إيجاد السبل التي تتيح للفلسطينيين الاستماع إلى بعضهم، وبناء المشترك بينهم في أفق التحرير. نعرف أن الفاعل السياسي الصامد والمنتفض والمقاوم ضدّ الاحتلال الاستيطاني الصهيوني استنفد كثيراً من أدواته، كما استنفدت الأجيال التي تُواصل حَمْل مشعل المقاومة وراية التحرير بعده أدواتها وخطاباتها، ورَكَنت ما تبقّى من أسلحتها. توقّفت كثيرٌ من الأنظمة العربية عن إسناد القضية الفلسطينية، الأمر الذي مكّن إسرائيل وداعمي مشروعها الاستيطاني من اختراق عديد من هذه الأنظمة بكثير من السهولة، فتضاعفت درجات الذهول العربي، وأصبحت تشمل أغلب الأنظمة العربية. ولهذا نوجّه فعل المراجعة المطلوبة نحو الراهن العربي بمختلف صور الذهول التي أصابته، وندعو الأنظمة العربية المُقيَّدة ببنود اتفاقيات التطبيع إلى ضرورة مراجعة خياراتها، في ضوء الجرائم التي ارْتُكِبَت في حقّ الفلسطينيين وأرضهم.
يقف الفلسطينيون والعرب اليوم على أبواب مرحلة مُحاصرةٍ بتحدّيات عديدة، بعضها يرتبط بالمتغيّرات الجارية في العالم، وكثير منها من صنع أنظمتنا ونخبنا. نقف أمام مشروع خطة وقف الحرب التي تستوعب نوعاً من الوصاية الاستعمارية الجديدة المُعلَنة على فلسطين وعلى المشرق العربي. وضمن هذا الأفق، نفكّر في خيار الصمود والمقاومة.
المصدر: العربي الجديد





