ممداني يصنع فرقًا

د. مخلص الصيادي

ليس حدثا عاديا أن يفوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، ولم تكن الانتخابات البلدية التي جرت في الولايات المتحدة مجرد حدث محلي، لكنها شكلت منعطفا مهما في مسار الحياة السياسية في الولايات المتحدة، ورغم أنها انتخابات محلية فإن من المنتظر أن يكون لها آثارها على المستوى الدولي.
وليس خطأ أن نقول إن فوز ممداني وجه صفعة قوية وغير مسبوقة للترامبية، بأوجهها المختلفة الاجتماعية والسياسية والاخلاقية، والداخلية والخارجية.
ولعل الرئيس الأمريكي كان أول من استشعر المعاني الحقيقية لهذا الفوز من قبل تحققه، لذلك خرج على كل الأعراف السياسية والأخلاقية حين اتهم ممداني بأنه ليس مجرد اشتراكي، وإنما “شيوعي، مؤيد للإرهاب”، وأن نجاحه سيشكل كارثة لمدينة نيويورك، وذهب به الخوف إلى حدود غير طبيعية، تدل على حالة من عدم التوازن النفسي والأخلاقي حينما هدد سكان نيويورك بالعقاب الجماعي لو أعطوا أصواتهم لهذا المرشح الديموقراطي، مؤكدا أنه لن يدفع الأموال الاتحادية ـ كما يجب ـ لبلدية نيويورك حال فوز ممداني. وكذلك حينما اتخذ في خضم المعركة الانتخابية موقفا طائفيا بغيضا من زهران ممداني فوصفه بالإسلامي المتطرف، وبالإرهابي لتأييده الحق الفلسطيني، محاولا بذلك تصعيد خطاب ” الاسلاموفوبيا “، كما وصف اليهود الذين يعتزمون التصويت لزهران “بأنهم أغبياء”.
والحق أن زهران ممداني المسلم ذو الأصول الهندية قاد معركة انتخابية حاسمة واضحة وأخلاقية، هز فيها وبقوة قيم ومفاهيم الترامبية التي تمثل الرأسمالية بأبشع وأقسى صورها، وقدم البديل عنها.
زهران بنى برنامجه الانتخابي داخليا على نصرة الطبقة الفقيرة والأسر محدودة الدخل في نيويورك، متعهدا بتأمين حياة اجتماعية كريمة لها، من مسكن، وتنقل، وصحة، وتعليم، وفرص عمل، وأمن وأمان اجتماعي، وأعلن دون مواربة أن تكاليف هذه الحياة الكريمة المبتغاة يجب أن يتحملها الأثرياء، وذلك بزيادة الضرائب على ثرواتهم ودخولهم، وأكد التزامه بتحقيق المساواة الكاملة في هذه الحياة الكريمة بين سكان المدينة دون النظر الى الأصل العرقي أو الاختلاف الديني أو الوضع القانوني، وبإعادة النظر في الموقف من المهجرين بما يتفق مع هذه الرؤية الاجتماعية.
كذلك قدم زهران رؤية أصيلة للموقف من الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” في فلسطين المحتلة، وخصوصا ما فعلته ولا تزال في غزة من إبادة وتهجير وقتل. وأكد بوضوح التفرقة بين اليهودية كدين، وبين الصهيونية كمشروع عنصري، فقدم برؤيته هذه منفذا مهما لاتجاه يهودي يريد ان يخرج من العباءة الصهيونية، ومن احتكار الصهاينة لتمثيل الطائفة اليهودية والتحدث باسمها، واستطاع بهذا الموقف الواضح والجريء أن يجعل الكثير من اليهود في نيويورك يصوتون لصالحه، وقد مثل هذا الموقف ليهود نيويورك صفعة إضافية للترامبية التي باتت تمثل اليمين الرأسمالي الأمريكي المتطرف، وكذلك لأنصار الحركة الصهيونية.
ويزيد من أهمية فوز زهران الطبيعة الخاصة لمدينة نيويورك، أكبر المدن الأمريكية، والعاصمة الاقتصادية والتجارية للولايات المتحدة، مركز رجال المال والأعمال، وفيها مقر الأمم المتحدة، وهي مركز لكل شيء له قيمة في الحياة الأمريكية من تقنية وإعلام وترفيه وصحة وإنتاج علمي وتكنولوجيا وفن ورياضة وأزياء، أي أنها تمثل مشهدا جامعا وثريا للعالم في مدينة واحدة يزيد عدد سكانها على تسعة ملايين نسمة، اليهود مكون رئيسي فيها إذ يزيد عددهم عن مليون ونصف المليون نسمة، وبالتالي ففيها أكبر تجمع يهودي في مدينة واحدة في العالم. فيما لا يتجاوز عدد المسلمين فيها سبعين ألف نسمة..
فوز زهران بمنصب عمدة نيويورك جاء في إطار الانتخابات البلدية التي جرت في عموم الولايات المتحدة وكذلك انتخابات تشريعية وانتخاب حكام في بعض الولايات، وتقدم نتائج هذه الانتخابات التي يسجل فيها الديموقراطيون حتى الآن تقدما، مؤشرا على تغير المزاج العام الأمريكي، وبداية خروجه من أسر الترامبية، التي جاءت بعد الفترة البائسة التي مثلتها ولاية الرئيس الديموقراطي السابق جو بايدن.
زهران ممداني الذي قدم نفسه وصاغ برنامجه الانتخابي باعتباره: “اشتراكي ديموقراطي ملتزم بقضايا الحق والعدل”، ونجح في نيل ثقة الناخب في أكبر وأهم معقل للرأسمالية ولمراكز ومؤسسات المال والأعمال في العالم، يعطينا درسا ثمينا في وقت عاصف يكاد يأخذ “بالحليم من الناس عندنا”.
في مدينة هي قلب النظام والمؤسسات الرأسمالية رفع مرشحا شعارات نصرة الضعفاء والمحرومين والبؤساء، ووضع برنامجا واضحا لتغيير حالهم، وتحدى حزبا يقوده أعتى رئيس أمريكي، وأكثر رئيس أمريكي سيطرت عليه النرجسية والاعتداد بالنفس، وشخصنة كل القضايا والمعارك،
وفي مدينة هي قلب الشركات والمؤسسات التي تديرها قوى الصهيونية العالمية رفع شعار الوقوف الى جانب الحق الفلسطيني، ووصف ما يقوم به الصهاينة في فلسطين بالإبادة الجماعية، وندد بالموقف الأمريكي المتواطئ مع العدوانية الإسرائيلية، وفرق بقوة وضوح بين اليهودية والصهيونية، فاحتضن الأولى باعتبارها دينا للأمريكيين المؤمنين بها، وناهض الثانية وأدانها باعتبارها أداة للعنصرية والعدوانية.
ثم إنه رفض أن يقايض على مبادئه وقناعاته، ورضي بأن تكون صناديق الاقتراع هي الحكم في خيارات الناخب، مبعدا بذلك التأثير السلبي والمخرب للتمويل الرأسمالي الذي يعمل على السيطرة على المرشحين، وعلى توجيه الناخبين من خلال قاعدة التبرع للحملات الانتخابية وتكاليفها.
أي أن ممداني الذي يمثل جيل الشباب، وثق بالناس، وبقدرتهم على أن يكونوا هم ـ وليس الممول وتبرعاته ـ الفيصل في حسم العملية الانتخابية، وانحاز إليهم، وقد أثمرت ثقته، ونجح في انحيازه.
ولا شك أن غزة وشعبها، التي تعرضت ـ ولا زالت تتعرض ـ لأقسى عدوانية عنصرية عرفها التاريخ، كانت حاضرة إلى جانب ممداني، وكان دم أبنائها، وغبار بيوتها المدمرة، حاضرة في كل بطاقة اقتراع حملت التأييد لهذا المرشح، وبذلك كانت “غزة العزة” هي صوت رئيسي صادق ومخلص في تحقيق هذه النتيجة.
والذي يمعن النظر في هذا الفوز ودلالاته سيخلص إلى أنه يحمل في طياته دلائل تغييرات قادمة ـ قد لا تتأخر ـ من شأنها التأثير على الانتخابات التشريعية، وحتى الرئاسية في الولايات المتحدة، ومن الطبيعي أن يمتد أثرها ـ حين تتحقق ـ إلى الإطار الدولي.
هذا الدرس بطبيعته وظروفه، ليس درسا خاصا بمدينة نيويورك، ولا بالولايات المتحدة، وإنما هو في جوهره درس لكل القوى الاجتماعية، ولكل القيادات الشعبية، ولكل شعوب العالم التي تعايش الصعود المخجل للرأسمالية المتوحشة، والتراجع المخجل أيضا لقوى التحرر والتقدم في دول العالم وخاصة دول العالم الثالث ـ ونحن منها ـ، درس يؤكد بأن السبيل لمواجهة كل هذا العتو الرأسمالي لا يكون بالانكسار أمامه، والتذلل له، وإنما بمواجهته من خلال الالتزام بمسار ذي ثلاث شعب:
** التزام حقيقي وثابت باحتياجات القوى والطبقات الشعبية، بأصحاب الدخل المحدود وبما يؤمن لهم حياة إنسانية كريمة، ومتنامية، ومستقرة.
** ثقة حقيقية بالناس، الذين نتوجه إليهم، وبخياراتهم، وبأن من شأن صناديق الاقتراع حين تكون حقيقية أن تعطي فرصة حقيقية للتغيير في كل مكان، وفي كل وقت.
** التزام برؤية صادقة للقضايا الدولية، وللعلاقات الدولية، تربط الحق بالعدل، وتقيم التحالفات على قاعدة الانتصار لقيم الحق والعدل.
ومما له دلالات عميقة، ويثير الدهشة أيضا، أن القضايا التي طرحها ممداني في حملته الانتخابية في مدينة نيويورك ونجح على أساسها، والترابط الذي التزمه بين القضايا الداخلية والقضايا الوطنية الإنسانية العامة، يصح أن تمثل قضايا رئيسية في نضال وجهود القوى الخيرة في بلادنا التي تستهدف بحق الرقي بمجتمعاتنا، وتحقيق الاستقرار والتقدم والعدل الاجتماعي، وتعطيها نموذجا يعصمها عن الوقوع في مزالق التخلي عن أساسيات وطنية واجتماعية بوهم تحقيق بعض الأهداف على حساب بعضها الآخر، وبوهم التحالف مع قوى ودول هي في الحقيقة السبب الرئيسي فيما مرت به وتعيشه بلادنا من مآزق وتهديدات واعتداءات ونهب وقيم لا تنتمي لمفاهيم العدل والتقدم بشيء.
وأخيرا فليس غريبا أن نرصد ضيق وغضب قوى ونظم ومؤسسات إعلامية عربية من هذا النصر الذي حققه زهران ممداني في نيويورك، ذلك أن هؤلاء في موقفهم وضيقهم وحسرتهم لا يقفون ضد ممداني، وإنما يقفون ضد المفاهيم والقيم والسياسات التي نجح بفعلها، وهي تمثل شاهدا حيا على فظاعة ما فرطوا به، وعلى خطأ ما أخذوا به. وعلى رداءة ما صار إليه أمرنا على أيديهم.

إسطنبول 5 / 11 / 2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى