“سوريا المتعَبة” عن قلوبٍ أنهكتها الحرب

مالك داغستاني

الحرب في سوريا انتهت، لكن شيئاً في ملامح الناس ما زال يواصلها بصمت. هذا ما بدا لي خلال زيارتي، وأنا أطالع وجوه السوريين المتعبة، تتحرك في شوارع متعبة بدورها.
في النزاعات والحروب الطويلة يُخلَق لدى الناس ما يدعوه الباحثون المختصون “الإرهاق العاطفي الجمعي”، الأمر الذي يؤدي لأن يتوقف الناس عن امتلاك القدرة على التعاطف لتجنّب الألم. لأن المشاعر استُهلكت أكثر مما يمكن تحمّله. بالتأكيد هذه الحالة لن تعني انعدام الإحساس، إنما تشي بأنّ الإحساس تشبَّع إلى درجة الانطفاء، بعد أن غدا مُصمَتاً.
باستثناء قشرة رقيقة من المجتمع، ممن يهتمون تاريخياً بالشأن العام، ففي جلساتي الشخصية مع الناس أمكنني ملاحظة التعب في التفاصيل الصغيرة. الفتور العام تجاه الأخبار السيئة، مع غياب الحماسة لأي مشروع سياسي أو وطني، وفي تراجع النقاش العام إلى حدّ الصفر تقريباً، وكأن هكذا نقاش غدا يثير الشك في السلامة العقلية لمن يطرحه، إلى الحدّ الذي يجعل البعض يعدّه ترفاً فائضاً عن الحاجة ولا يليق ببلدٍ لم يتعافَ بعد. طبعاً، كل ذلك لا يلغي أنه عند ذكر الانعتاق والخلاص من نظام الأسد، فإن الجميع يبدون في حالة طربٍ صوفيٍّ وعاطفيٍّ لا يُضاهى.
مع الإنهاك الداخلي العميق يتراجع الخيال السياسي، بمعنى تلك القدرة على تخيّل واقع أفضل، فيغدو الناس أسرى لما هو قائم، ليس بالضرورة لأنهم يرضونه، لكن لأن أي بقايا خيالٍ لم تعد تسعفهم لرؤية بديل أفضل.
بدا لي الأمر مفهوماً بفعل كل ما جرى، لكني كنت أجد المشكلة في أن الإرهاق العاطفي، مستقبلاً ومع مرور الزمن، لن يبقى في حدود المزاج الفردي، والأرجح أنه سيتحوّل مع الوقت إلى نمط في التفكير والسلوك السياسي والاجتماعي. وهو إن لم يُعالج سوف يتحول إلى قبولٍ سلبي بكل ما هو قائم الآن ومستقبلاً. ما يعني في النهاية الاستسلام لنوعٍ من الكسل الذهني وانعدام أية مبادرة تخرج من بين الناس العاديين، وليس بدفعٍ من النخب التي على الأرجح لن تلقى تجاوباً.
الكسل امتدَّ إلى النقاش العام، فالمتعبون لا يحتملون التعقيد، والأمر عندهم إما أبيض أو أسود. لذلك صار الموقف الحاد أكثر راحةً من النقاش الطويل. اعتقادي الشخصي أنه في سوريا اليوم، تتلاشى على نحوٍ متسارع ما يمكن أن ندعوها بالمنطقة الرمادية، بمعناها الإيجابي. الناس إما مع أو ضد، والآخرون إمّا مخلصون أو خونة، إمّا ضحايا أو جناة. في الأصل، كان الاستبداد يغذّي هذا المنطق الثنائي لتسهيل السيطرة، لكنّ الإرهاق الراهن أعاد إنتاجه على نحوٍ مختلف. فالمتعبون لا يطيقون التفاصيل، ونقاش اللون الرمادي يحتاج إلى جهد، وإلى التدقيق للتمييز بين الظلال المتدرّجة، مما يستنزف طاقةً لم يعد الكثيرون يمتلكونها.
طبعاً هذا الميل إلى الحسم العاطفي السريع ينطوي على الكثير من المخاطر. فهو، كمقدمةٍ، يُبقي المجتمع في حالة من الانقسام الكسول. الجميع ضدّ الجميع، ولكن دون طاقة كافية للمواجهة أو التغيير. والنتيجة أن الحوار الجدّي وعلى المستوى العام، وهو شرط أي نهوض
وطني، أصبح من أكثر الأشياء ندرة. فمع الإنهاك الداخلي العميق يتراجع الخيال السياسي، بمعنى تلك القدرة على تخيّل واقع أفضل، فيغدو الناس أسرى لما هو قائم، ليس بالضرورة لأنهم يرضونه، لكن لأن أي بقايا خيالٍ لم تعد تسعفهم لرؤية بديل أفضل.
في مدينتي، وأعتذر ممن يمتلكون فرط حساسية من استخدام ياء الملكية، يبدو أثر الحرب في العمران بشكل جليّ طبعاً، ولكنه أكثر ما يظهر، لو دققنا النظر، في الطاقة الشعورية لدى الناس. وكأنّ السوريون يعيشون مرحلة “ما بعد الانفعال”. فالمآسي لم تعد تثير الغضب أو الاستياء، إلا لدى من تمسّه مباشرة. في هذا المناخ، يفقد الناس القدرة على التمييز بين المواقف، لأن التعب يحتاج إلى الاختزال، وبالتأكيد فإن الأبيض والأسود أسهل من الخوض في التفصيل اللوني. في الكثير من النقاشات يُفهم الحياد أو حتى الاعتدال على أنه خيانة أو على الأقل موقفٌ غير محتمل. بينما على الجانب الآخر، يفسّر البعض النقد، مهما بدا إيجابياً، على أنه تهديد.
يبقى الأكثر مرارة أن الإنهاك الجماعي ينتج “صمتاً سياسياً”، حتى ممن لا قناعة لديه بحال البلد، لدرجةٍ يغدو وكأنه لم يعد يمتلك القدرة النفسية على أي نوع من التمرد السياسي ولو بالكلمات فقط. هناك لا مبالاة سلبية لا تهتم سوى بتأمين سبل العيش وهذا مفهوم إلى حدٍّ ما، لكن اللافت أن سقوط نظام الأسد بدا وكأنه مناسبة ذهبية للاستقالة من أي نقاش عام، في وقتٍ هو أكثر ما تحتاج إليه البلد. بعد الحرب الأهلية في لبنان، وبعد اتفاق “دايتون” في البوسنة، تعب الناس من السياسة، فسلّموا البلد لمن أتعبهم أصلاً. طبعاً أستثني في كتابتي عن الصمت السياسي هنا، حالة “ديوك” وسائل التواصل الاجتماعي الذين يهيّجون الناس أو يؤنبونهم، فأغلب هؤلاء يحتاجون إلى مساحة علاج أكثر مما يحتاجون إلى جمهور يزيد من أزماتهم. فهذا ليس الحقل الذي أخوض فيه.
كأن الحرب التي لم تعد على خطوط الجبهات، انتقلت إلى وجوهنا، ويبدو أن ما نحتاجه اليوم ليس انتصارات أو هزائم جديدة، إنما بعض الاسترخاء النفسي والاجتماعي، لتعود إلينا تلك القدرة على الحلم ببلد نستحقّه. والأوضح اليوم في المجتمع أن الشفاء الجمعي لا يبدأ فقط بالاقتصاد أو الإعمار المادي على أهميته، لكن الأهم هو إعادة فتح النوافذ الداخلية، أي إعادة الثقة بين الناس، بين المواطن و(الدولة)، بين الجار وجاره المختلف طائفياً أو عرقياً. فلا يمكن لأي خطة إعمار أو نهوض اقتصادي أن تمضي وتنجح ما لم تُرمَّم هذه الثقة أولاً. مما يعيد الإيمان المتبادل بأن العيش المشترك ممكن مرة أخرى.
مع اجتثاث وإخراس، نعم (اجتثاث وإخراس)، كل الأصوات الطائفية البغيضة التي تدعو إلى القتل والموت من كل الأطراف، يمكن أن تنفتح تلك النوافذ مجدداً.
الأكيد أنه ليس هناك دواء سريع لهذا النوع من الفخاخ، لكنه، مع ذلك، ليس قدراً محتوماً أيضاً. فالشفاء الجمعي يبدأ من استعادة المعنى، أي أن يشعر الناس أن حياتهم اليومية تتجه نحو غاية ما، مهما كانت بسيطة. فأولى خطوات التعافي ليست سياسية بحتة، بل نفسية واجتماعية، عبر إعادة بناء القدرة على الشعور بالمسؤولية والارتباط. فحين يستعيد الناس إحساسهم بأنهم جزء من شيء أكبر من بؤسهم الذاتي، يبدأ المجتمع بالتحرك ببطء نحو
الحياة، فيتفاعلون مع مدرسة جديدة تُفتح، أو شارع يُضاء، أو أية مبادرة محلية صغيرة تُحدث فرقاً ملموساً.
طبعاً هذه العملية محورها مناخ عام يشجع الثقة، ويحتفي بالمعتدلين وحتى المحايدين بدل أن يشيطنهم، مما يعيد إلى الحوار مكانته الطبيعية. سوريا اليوم تحتاج إلى الأصوات الهادئة أكثر من حاجتها للخطباء المُفوّهين الجدد. تحتاج إلى سياسات تراعي هشاشة الناس بدل استغلالها. وهذا ليس طلباً لمعجزةٍ، لكنه نوع من الحق المشروع للحصول على استراحة من القلق الدائم الذي أدْمَنّاه لعقود مضت. فبعد سنوات من الخوف، لم يعد المطلوب انتصارات كبيرة، بل نوع من الطمأنينة يمكن العيش فيها بعيداً عن الصحو اليومي على ألم جديد.
مع اجتثاث وإخراس، نعم (اجتثاث وإخراس)، كل الأصوات الطائفية البغيضة التي تدعو إلى القتل والموت من كل الأطراف، يمكن أن تنفتح تلك النوافذ مجدداً، ويستعيد الناس القدرة على الإصغاء لبعضهم، فتبدأ المدن باستعادة حياتها، لا من خلال مشاريع الإعمار الكبرى فقط وهي ضرورية بالطبع، لكن من بعض التفاصيل الصغيرة. ضحكة صافية في المقهى، وحوار بين مختلِفيْن بلا مظاهر لخصومةٍ متجذّرة. هذا النوع من الثقة الذي لا يحتاج إلى تصريحات سياسية ناريّة، هو الشفاء الحقيقي الذي يمكن أن يعيد للقلوب سعتها، بعد أن أنهكها طول الخراب. هل بدت لكم كتابتي أكثر عاطفية هذه المرة؟ نعم، لِمَ لا؟ فما تبقّى من قلوبنا يستحق أن يُسمَع أيضاً.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى