
إصلاح الإطار القانوني وحظر خطاب الكراهية والتحريض على العنف أولى مهام الدولة السورية الجديدة
أصدرت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً بعنوان: “دور الصحافة في مسار العدالة الانتقالية في سوريا بعد سنوات من القمع والترهيب”، سلّط الضوء على الدور المحوري الذي يمكن أن تؤديه وسائل الإعلام في دعم العدالة الانتقالية في البلاد.
يعرض التقرير رؤية الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان حول الأدوار المتنوعة التي يمكن للصحافة أن تنهض بها ضمن هذا المسار، مع تركيز خاص على وظائفها الرئيسة في كشف الحقائق والتصدي لثقافة الإنكار. كما يناقش التحديات البنيوية التي تعيق العمل الإعلامي في سوريا على المستويات التشريعية، والمؤسسية، والمجتمعية، ويقترح حلولاً عملية تمكّن الإعلام من أداء دور فاعل في توثيق الجرائم، وتعزيز المساءلة، ودعم جهود المصالحة.
وتستند هذه الرؤية التكميلية إلى الرؤية الأساسية لمسار العدالة الانتقالية، التي أصدرتها الشَّبكة بتاريخ 17 نيسان/أبريل 2025، إضافة إلى الرؤية السياسية لتحقيق التعددية والتشاركية، الصادرة في 6 آذار/مارس 2025.
وفي هذا السياق، يقول فضل عبد الغني، المدير التنفيذي للشبكة السورية لحقوق الإنسان:
“لقد شكّل الإعلام على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية رئة الحقيقة التي تنفّست من خلالها قضايا الضحايا السوريين، ونافذتهم إلى العالم. في كل مرحلة من مراحل المأساة السورية، وقف الصحفيون – المحترفون منهم والمواطنون – في الصفوف الأمامية، يوثقون بدمائهم أحياناً ما عجزت الآليات الدولية عن توثيقه.
نحن في الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان نعتبر العمل الإعلامي شريكاً استراتيجياً في مسار العدالة الانتقالية. فلولا الجهد الذي بذله الإعلاميون، لكان آلاف الضحايا عرضة للنسيان ولتم طمس الكثير من الانتهاكات. لم نكن لنحقق ما أنجزناه في التوثيق والتصنيف الحقوقي لولا الشراكة الحقيقية مع المنظومة الإعلامية.”
وقد سلّط التقرير الضوء على المخاطر الجسيمة التي واجهها الصحفيون خلال سنوات النزاع، من اعتقال وتعذيب وقتل، في مناطق النظام والفصائل المسلحة على حد سواء. ووفقاً لبيانات الشَّبكة، فقد تم توثيق ما يلي خلال الفترة الممتدة من آذار/مارس 2011 حتى حزيران/يونيو 2025:
- مقتل 725 من العاملين في القطاع الإعلامي، بينهم 7 أطفال و6 سيدات، بالإضافة إلى 9 صحفيين أجانب. وقد قُتل 559 منهم على يد قوات نظام الأسد.
- استمرار اختفاء ما لا يقل عن 486 من العاملين في القطاع الإعلامي قسرياً، بينهم 9 سيدات و17 صحفياً أجنبياً، من ضمنهم 392 حالة على يد قوات نظام الأسد.
الإعلام والعدالة الانتقالية
يُقدّم التقرير إطاراً نظرياً لمفهوم “الإعلام الانتقالي”، باعتباره أداة جوهرية تسهم في دعم مسارات العدالة الانتقالية في أعقاب النزاعات أو انهيار الأنظمة الاستبدادية. ويبرز هذا المفهوم في بُعدين رئيسين:
أولاً: تحوّل وظيفة الصحافة في سياقات ما بعد الصراع
يشير التقرير إلى التحولات الجذرية التي تمر بها الصحافة مع تفكك أجهزة القمع وانهيار الرقابة، إذ تبدأ المؤسسات الإعلامية في التحرر والسعي نحو المصداقية. ويتجلى هذا التحول من خلال ثلاثة محاور رئيسة:
- الانفتاح المفاجئ للفضاء العام: تُتيح نهاية النزاع المجال لظهور وسائل إعلام مستقلة تسعى إلى كسب ثقة الجمهور.
- استخدام التقنيات الرقمية: تعتمد الصحافة على أدوات رقمية منخفضة التكلفة لنقل الأخبار والتحقق منها، وتبرز الصحافة المواطنية كفاعل أساسي في تغطية المناطق المهمّشة.
- بلورة خطاب حقوقي: يضطلع الإعلام الانتقالي بدور بارز في كشف الانتهاكات ونقل شهادات الضحايا وتوثيقها، لتشكيل سردية وطنية جامعة في مرحلة ما بعد الصراع.
ثانياً: ارتباط الصحافة بآليات العدالة الانتقالية
يشير التقرير إلى أنَّ الصحافة المستقلة تضطلع بدور محوري في دعم مسارات العدالة الانتقالية، بوصفها أداة فعّالة لنقل الحقيقة ومساءلة السلطة، ويتجلى هذا الدور في أربع وظائف رئيسة:
- تسليط الضوء على أعمال لجان الحقيقة والمصالحة: يتولى الإعلام تغطية نشاط هذه اللجان، ونقل شهادات الضحايا والجناة إلى الرأي العام.
- ممارسة الرقابة على العدالة القضائية: من خلال التغطية الشفافة للمحاكمات، يسهم الإعلام في تعزيز ثقة الجمهور بالنظام القضائي، ويحدّ من احتمالات التلاعب السياسي.
- بناء سردية وطنية جامعة: تساهم الصحافة في خلق خطاب عام يتجاوز الانقسامات، ويواجه خطابات الكراهية والعنف.
- حفظ الذاكرة الجماعية: عبر التوثيق المنهجي للانتهاكات والشهادات، تدعم الصحافة بناء ذاكرة وطنية تُستثمر لاحقاً في المسارات القضائية والتعليمية.
دور الإعلام في دعم العدالة الانتقالية في السياق السوري
وفقاً للتقرير، يتمثل دور الإعلام في تعزيز العدالة الانتقالية في سوريا عبر خمسة محاور رئيسة:
- حفظ الذاكرة الوطنية: يُمكن للصحفيين الوصول إلى الوثائق السرية لتوثيق الانتهاكات، بما يدعم إنشاء أرشيف وطني يمنع طمس الحقيقة.
- الرقابة على العدالة: يؤدي الإعلام دوراً رقابياً حيوياً خلال عملية إعادة بناء المؤسسات القضائية، من خلال متابعة القضايا، وكشف مواطن التقصير، وتعزيز مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
- منصة للحوار الوطني: يوفّر الإعلام المهني فضاءً آمناً لتبادل وجهات النظر، وتشكيل سردية وطنية شاملة تتجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية، وتسهم في دفع القضايا الكبرى مثل صياغة الدستور والمصالحة الوطنية.
- حارس الديمقراطية الناشئة: يدعم الإعلام ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان والتصدي لمحاولات عودة الاستبداد، من خلال تسليط الضوء على معاناة الضحايا وتعزيز الوعي العام.
- مواجهة خطاب الإنكار: يتصدى الإعلام المستقل لمحاولات تبرير الجرائم أو إنكارها، عبر تفكيك الروايات الرسمية المضللة، وتقديم توثيق مهني يعزز مسارات العدالة الانتقالية.
التحديات والحلول: إعلام ما بعد الاستبداد في سوريا
تناول التقرير التحديات المركّبة التي تواجه الإعلام السوري في مرحلة ما بعد الاستبداد، والتي من شأنها أن تقوّض استقلاليته وتحدّ من قدرته على دعم العدالة الانتقالية. وتتلخص هذه التحديات في:
- فراغ قانوني مقلق: غياب تشريعات واضحة تضمن حرية الإعلام وتُجرّم تبرير الجرائم وخطابات الكراهية، ما يفتح الباب أمام التلاعب السياسي والضغوط غير المباشرة.
- ضعف البنية التحتية وشحّ التمويل: يعاني الإعلام من تركة مؤسسات منهكة بفعل الفساد والحرب، ونقص الموارد الضرورية لتطوير المحتوى وضمان الاستقلال المهني.
- الانقسامات المجتمعية: تسببت الحرب وبعض وسائل الإعلام في تأجيج الخطابات الطائفية والمناطقية، ما قوض ثقة الجمهور بالإعلام، وأضعف فرص بناء إعلام جامع يخدم المصالحة الوطنية.
في المقابل، يقترح التقرير خارطة طريق لمعالجة هذه التحديات، من خلال حزمة من الحلول العملية:
- إرساء بنية قانونية متوازنة:
- صياغة قوانين جديدة تضمن حرية التعبير وتمنع خطاب الكراهية والتحريض على العنف.
- الاستفادة من المرجعيات الدولية، كالمادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
- تجاوز القوانين القمعية التي كبّلت الإعلام لعقود.
- بناء قدرات إعلامية مستقلة:
- إبرام شراكات مع منظمات دولية لتقديم تدريبات في مجالات التحقيق الرقمي (OSINT).
- وضع ميثاق شرف إعلامي يحدّد مبادئ أخلاقية واضحة للتغطية الصحفية.
- تخصيص منح مالية لدعم وسائل الإعلام المستقلة وحمايتها من الضغوط السياسية.
- زرع ثقافة العدالة في الوعي العام:
- إطلاق حملات إعلامية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني لتعزيز ثقافة المحاسبة ونبذ الانتقام.
- دعم برامج حوارية تجمع أطياف المجتمع السوري المختلفة لتعزيز المصالحة الوطنية.
- تطوير منظومة مكافحة التضليل:
- تأسيس آليات لرصد خطاب الكراهية وتفنيده بدل الاقتصار على منعه.
- تدريب الصحفيين على التحقق من الأخبار والمحتوى الرقمي، لا سيما المنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
- وضع الضحايا في صلب التغطية الإعلامية:
- اعتماد سياسة “الضحايا أولاً”، تُعلي من سرد قصصهم وتحترم كرامتهم.
- إعادة هيكلة الإعلام الرسمي ليصبح مستقلاً، وتمويله عبر صناديق وطنية ودولية.
- بناء جسور تعاون بين الإعلام والهيئات القضائية لضمان دقة المعلومات ومنع التلاعب بالسرديات.
خاتمة
يشدّد التقرير على أنَّ دور الإعلام الحر لا يقتصر على نقل الأخبار، بل يشكّل عنصراً فاعلًا في معركة الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة. ومع دخول سوريا مرحلة ما بعد الاستبداد، تُتاح للإعلام فرصة تاريخية ليكون شريكاً رئيساً في بناء مجتمع جديد قائم على المساءلة والعدالة والمصالحة.
ويرى التقرير أنَّ اضطلاع الإعلام بهذا الدور المحوري لا يمكن أن يتحقق تلقائياً، بل يتطلب معالجة دقيقة للتحديات القانونية والمؤسسية والمجتمعية، عبر تبنّي رؤية واضحة تُعلي من شأن حرية التعبير، وتتصدى لتزييف الحقائق، وتؤسس لصحافة مهنية مستقلة. وبهذا، يغدو الإعلام حارساً للذاكرة الجمعية، ورقيباً على العدالة، وركيزة أساسية في مسار التحول الديمقراطي.
المصدر: الشبكة السورية لحقوق الانسان
 
				





