
ما ميز الحقبة الأسدية طوال فترتها أن النظام ابتلع الدولة من خلال هيمنة أجهزة الأمن على كل المفاصل، وحول تلك المؤسسات إلى أطر شكلية مهمتها إضفاء شرعية زائفة على قرارات أجهزة الحكم الفعلية، وصار واضحاً لدى السوريين أن ثمة “حكومة” فعلية تمثلها أجهزة الأمن، وأخرى شكلية أو واجهة تمثلها “الحكومة”. ومع انهيار النظام الأسدي، كان التحدي الأساسي أمام السلطة الجديدة، ومطلب السوريين هو كيفية إعادة بناء مؤسسات الدولة التي فرِغت من محتواها بشكل يوصل في النهاية لدولة تقوم على حكم المؤسسات والقانون، دولة توفر للسوريين شروط العيش الكريم من معاش وحرية وكرامة، وليس نظاماً يرسخ سيطرة المنتصر.
يرتكز مفهوم الدولة إلى أسس تتسم بالثبات حيث يشير إلى بناء أو كائن يقوم على حكم المؤسسات وفق قوانين علنية معروفة ضمن إطار جغرافي محدد وينال رضا وقبول الناس، بمعنى أن بناءها لا يتم من خلال فرض رأي أو معتقد على المجتمع، تنحصر مهمتها بإدارة الاختلافات في المجتمع، بينما يرتكز النظام السياسي إلى وسائل وطرائق حكم بقصد إدارة السلطة، وبالتالي يمكن تلخيص الأمر بأن الدولة تمثل الثبات والاستقرار، بينما يمثل النظام التغير سواء بالشكل السلمي الديمقراطي أو بالشكل العنفي (ثورة، انقلاب) وغيره من الوسائل. ومن الضروري تحقيق التوازن بين الدولة والنظام، بحيث تتحقق الأهداف المرجوة منها وهو تحقيق خيارات الناس.
حوّلت التجربة السورية في العقود الأخيرة هذه المعادلة رأسًا على عقب: فقد أصبح النظام هو الدولة الفعلية، فيما تحوّلت المؤسسات إلى أدوات أمنية وبيروقراطية للضبط والسيطرة، وبالتالي أُفرغ مفهوم الدولة من مضمونه القانوني، وأصبح الولاء للنظام هو معيار الوطنية. حين تولّت السلطة الجديدة الحكم بعد انهيار النظام الأسدي، واجهت معضلة مزدوجة: إعادة بناء مؤسسات منهارة، والتعامل مع مجتمع منهك وممزق. حيث أعلن الرئيس أحمد الشرع عن ضرورة الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة، في محاولة لتأطير مرحلة ما بعد التحرر في مسارٍ مؤسساتي، لكن الإجراءات التي اتُخذت، من توحيد الفصائل، وتشكيل جيش جديد، وعقد مؤتمر حوار وطني، وتشكيل حكومة موسعة، اصطدمت بعقبات بنيوية، إذ لم تُبنَ على أسس مؤسسية، بل على توازنات محلية تقوم على الانقسامات القائمة بدلاً من تجاوزها.
كانت التحديات كبيرة جداً، وخاصة الداخلية، فجزء مهم من الأراضي السورية بما يحتويه من ثروات خارج سيطرة الحكومة الجديدة وتحت سيطرة قوة منظمة عسكرياً وسياسياً وأمنياً لها أجندتها ورؤيتها الخاصة لسوريا، رؤية لا تتوافق مع غالبية السوريين. وزاد الأمر سوءا وتعقيدا ما جرى في الساحل السوري (آذار) والسويداء (تموز) وتعامل الحكومة الأمني معه، حيث جلب مزيداً من الضغوط على سوريا، كما أضعف الثقة بين السوريين وزاد من حدة الاستقطابات الطائفية، وهي استقطابات تتطلب مزيداً من الوقت والإجراءات للخلاص منها، وأولها التخلص من خطاب اتهام الجماعة ولغة المكونات، التي تبتلع اختلافات الأفراد وحقوقهم، والانتقال للتعامل السياسي مع الحدث، ومع قواه وعدم تعميمه على الجماعة بكاملها.
لم تحقق الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الجديدة مثل المؤتمر الحوار وتشكيل الحكومة و”الانتخابات” غايتها المرجوة، فالمؤتمر بساعاته القليلة وأعداده الكبيرة كان أقل مما هو مأمول منه وما تتطلبه الحال في سوريا بعد تغييب الحوار لسنين طويلة، وكذلك الحكومة التي طغى عليها سواء من خلال الوزراء أو معاونيهم تمركز القرار في يد لون واحد، أما الانتخابات، فصحيح أن الظروف العامة في البلاد غير مناسبة لانتخابات عامة، لكن ما جرى كان أشبه بتعيين أكثر منه انتخاب، فتحديد الهيئة الناخبة من قبل لجنة معينة رسم ملامح النهاية، وهو ما عكسته النتائج من تسيد اللون الواحد، الذي لن يتمكن الرئيس بتصحيحه من خلال الثلث الخاص بالرئيس.
لا تزال سوريا، رغم الخراب والانقسام، تملك فرصة لإعادة بناء ذاتها كدولة لا كنظام، لكن البداية الحقيقية لا تكون في إعادة توزيع السلطة بين الفصائل أو المناطق والجماعات، بل في استعادة المعنى المدني للسياسة (مجالاً للتفاوض لا للإقصاء.)، واعتبار السوريين مواطنين لا رعايا، شركاء لا تابعين. عندها فقط يمكن القول إن النظام لم يعد يبتلع الدولة، بل صار أحد مؤسساتها الشرعية.
تبقى البدايات في كل الحقول هي الأصعب، ولكن اختيار الخطوة الأولى بشكل سليم يسهل كثيراً المسير، وهذا يعني ما يعنيه في سوريا الجديدة: التشارك مع الكفاءات من السوريين وتفعيل الحياة السياسية والتخلي كاملاً عن ذهنية المنتصر، فتجارب المنتصرين القريبة والبعيدة الذين احتكروا السلطة سواء في العراق أو الاتحاد السوفييتي كانت مخيبة للآمال، وتجاوز تركة الأسد لا يكون بقرارات فوقية، بل بإعادة بناء الدولة الوطنية القائمة على الحياد والعدالة والاحتكام إلى القانون على أساس المشاركة لا الغلبة، على إدارة الاختلاف لا تعميقه، وهو ما يساعد على تشكيل الهوية الوطنية، ويلغي خطر الانقسام.
المصدر: تلفزيون سوريا






