
الأجيال الجديدة تبدو مثيرة للدهشة حينًا، والغرابة، والصدمة في أحيان أخري، لا سيما جيلى (Z)، وألفا، من خلال رفضهم لأفكار وقيم وتقاليد، وأنماط السلوك الاجتماعي والسياسي التى سادت ولا تزال من الأجيال السابقة الأكبر سناً، وفى فهم وإدراك ما كان يعتبر من المحرمات الاجتماعية، والدينية، ومن الأنساق الأخلاقية فى مجتمعات كانت تعتبرها معايير للحكم على الأطفال والشباب والكبار، من حيث مدى احترامها، أو انتهاكها، ورفضهم لما يعد مغايرًا لهذه الأنساق الأخلاقية والدينية والمذهبية، ولا تقتصر ذلك على القيم، والسلوك الاجتماعى، أو المواقف السياسية، وإنما لمفهوم الجيل، وتعريفه فى الدراسات الاجتماعية فى الدول الغربية، وجامعاتها ومراكز البحث الاجتماعى والسياسى، الذين كانوا يعتبرون الجيل زمنيا لمدة ثلاث عقود، أو أقل قليلا لدى بعضهم.
هذه المدة الزمنية المحددة، لتحديد الجيل فى علاقاته بالأجيال الأسبق، واللاحقة، كان جزءًا من إيقاعات الزمن وسرعاته فى هذه المراحل التاريخية ، وتطوراتها الاقتصادية، والتكنولوجية، ووسائل الاتصال، وانعكاساتها على المعرفة، والثقافة، والقيم وأنماط السلوك الاجتماعى، ومستويات الوعى، والانجازات الجيلية فى مختلف المجالات مع الثورة الصناعية الثالثة، وبدايات الثورة الرقمية، حدثت تحولات نوعية فى التغيرات العقلية، والإدراكية، واللغوية للأجيال الجديدة، لاسيما فى ظل نهاية عصر الايديولوجيات ، والسرديات الكبرى، وعالم ما بعد بعد الحداثة، ومن ثم لم تعد المدة الزمنية لتحديد الجيل، صالحة لدرس هذه الأجيال، من حيث هيمنة عصر السرعة الفائقة فى التقنيات، وعالم العولمة ، وما بعدها، على نحو أدى الى تغيرات جيلية ناعمة، ثم صاخبة فيما بعد مع الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى التوليدى.
من هنا ظهر جيلى (Z)، وآلفا، وذلك لتحديد مجموعات من الفئات العمرية –أيا كان انتماءها الطبقى-، من خلال الميلاد فى فترة زمنية محددة، ويتشارك خلالها، هؤلاء المواليد فى بعض من الخصائص، والسمات الاجتماعية والثقافية وأنماط التفكير، ومن ثم تحديد جيل (Z)، الذى ولد من النصف الثانى من عقد التسعينيات حتى أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة (2009)، وهو جيل ولد فى عصر الشبكات ووسائل التواصل الاجتماعي، ويركز على الخصوصية الفردانية، والنزوع نحو الاعمال الحرة، والموازنة بين الحياة الفردية، والعمل للتوازن النفسى والاجتماعى، والوعي النسبى ، لا سيما فى العالم الأكثر تقدما بالقضايا الجديدة كالبيئة، والمشاكل الاجتماعية المستجدة، وتطوراتها، وهو الجيل الذى ساهم بعضه عربياً فى بعض أنشطة، وتظاهرات الربيع العربى المجهض، ثم فى تركيزه على بعض القضايا الإنسانية الكونية، على نحو ما فعله طلاب الجامعات الأمريكية – النخبوية – الكبرى تجاه حرب الإبادة والحصار الجماعي للفلسطينيين فى قطاع غزة، وتظاهراتهم مع غيرهم فى أوروبا، وعديد من دول العالم، وعلى خلاف مع سياسات بلادهم، ومعهم أجيال أكبر سنًا!
* جيل آلفا Generation Alpha، هو الجيل الذى ولدَّ فى الحياة فى ظل الهواتف الذكية، واللوحات الرقمية، والتعليم الرقمى منذ طفولته، ومن ثم نزع للتفاعل الرقمى، والمحتويات المرئية من الفيديوهات الطلقة، والألعاب، والحياة الافتراضية وتشكل وعيه، وخبراته ، وتعليمه عبر هذه الوسائط . هذين الجيلين، يسيطر عليها العقل، واللغة الرقمية، وسلطة الصورة، وأنماط التفكير المغايرة للأجيال السابقة لها.
* الجيل القادم، ومن قلب ومع تحولات جذرية هو جيل بيتا (Generation Beta)، الذى ولد بدءا من عام 2025 الحالى، وما بعد جيل آلفا، وهو ما يصفه الخبراء والذكاء التوليدى، بأنه جيل الذكاء الاصطناعى التوليدى، وعالم الروبوتات هذا الجيل (Beta)، سيكون ابن ثقافة ولغة وأنماط تفكير الذكاء الاصطناعى التوليدى، والروبوتات الذكية التى ستتمدد أدوارها فى أسواق العمل، وتؤدى الى إزاحة العمالة البشرية من مواقع عمل فى مجالات عديدة، ومن المرجح أنه قد يشهد طفرة فى مجالات الواقع المعزز، والطب الحيوى.
من الملاحظ أن التصنيف الجيلى السابق، لا يعنى قط أن هناك انتماء ايديولوجى، أو سياسى، واجتماعى، وفكرى مسيطر بين هذه الأجيال الثلاث، على الرغم من أن جيل (Z) تحرك فى إطار حركات اجتماعية فى مدغشقر، وجورجيا والمغرب، سعيا وراء رفض الاستبداد فى بعض النظم السياسية، أو رفض التدهور فى الخدمات الصحية، وضرورة تحسين وتطور التعليم فى المغرب، واحتجاجات، جورجيا – 2024/ 2025- بعد إعلان النتائج الرسمية الأولية للانتخابات البرلمانية فى 26 أكتوبر ، وإعلان فوز حزب الحلم الجورجي الحاكم، ورفضها لاعتبارها مزورة ،ومطالبة المحتجين بإعادة فرز النتائج وإجراء انتخابات جديدة. فى مدغشقر خرج جيل (Z) فى انتانانا ريفو مطالبين بالكهرباء والماء، وتطورت الحركة إلى الدعوة لاستقالة الرئيس آندرية راجولينا، وإصلاحات سياسية، ومحاسبة الفساد، والفاسدين فى السلطة، والبلاد . من الشيق ملاحظة أن اسباب انتفاضات جيل (Z)، ذات مطالب إصلاحية، بعضها يتطور نحو بعض من الراديكالية النسبية كنتاج لجمود الفكر السلطوى، ولجوءه إلى استخدام أجهزة الدولة القمعية، فى مواجهة المتظاهرين . حركة الاحتجاج فى الحالة المغربية، استطاع الملك التجاوب المرن، والعام مع مطالب الشباب بخصوص التعليم، والقطاع الصحى، وأعلن القصر الملكى تخصيص 15 مليار دولار لكلا القطاعين بزيادة قدرها 16% عن العام الماضى، وصادق مجلس الوزراء الذى رأسه الملك محمد السادس على مشروعى قانونين بخصوص مجلس النواب والأحزاب السياسية.
اتسم أداء الدولة المخزنية بالمرونة النسبية فى الأداء الأمني مع التظاهرات، وتفهم أسبابها الإصلاحية، على الرغم من عدم حركية العقل السياسى الحكومى، وبطئه ونمطيته فى التجاوب السريع مع مطالب جيل (Z) الإصلاحية، وفى ذات الوقت الاستجابة النسبية من أبناء هذا الجيل، والتقليل من عمليات التظاهر السلمية.
الحالات الثلاث لجيل (Z)، كاشفة عن الفجوات الجيلية التى أخذت فى الاتساع بين الأجيال، والإمكانات، والملكات الرقمية كفكر رقمى، وأساليب تفكير فى لغة التنظيم ، والتعبئة على برنامج ديسكورد، والتى انتظم بها جيل زد ٢١٢(Gen 212) لمواجهة غلاء الأسعار، وتدهور خدمات الصحة والتعليم، وارتفاع نسب البطالة وسط الجيل الشاب، وتورط عناصر من الحكومة فى ملفات فساد سياسي.
الدينامية السياسية لهذا الجيل، وتجاوب القصر الملكى النسبى معها، تشير إلى ضرورة فهم مختلف سياسيا، وفكريا فى التعامل مع جيلى Z وآلفا ثم بيتا فى المستقبل المقبل والمتوسط، لا سيما فى ظل التطور التقنى والذكاء التوليدى، والروبوتات، لان هذه التطورات فائقة السرعة والتغير ثم التحول النوعى فى العقل والوعى والادراك، والحركة العملية، وفى العمل، والتغير فى مفهوم السياسة ذاته، والدولة والقانون والسياسات الاجتماعية، من ثم لن تستمر المورثات المعرفية والنظرية والعملية التى سادت حول السياسة، والدولة، والسلطة لدى هذه الأجيال، على نحو ما استقر عليها وعى الأجيال السابقة، أثناء الحرب الباردة وما بعدها.
ومن ثم نحن أمام مرحلة جيلية مختلفة نوعيا، وتحتاج إلى دراستها سوسيولوجيا وسياسيا ورقميا، وإبداع أساليب جديدة مستمدة من عالمها الرقمى، ولغته وذكاءه التوليدى، فى التعامل معها، وتطوير المؤسسات السياسية، والأفكار الجديدة فى جميع المجالات، لكى يتم دمج هذه الأجيال فى إطار تجديد الدولة الوطنية، ومؤسساتها فى عالمنا العربى، من خلال ديناميات جديدة، وأفكار مختلفة تتفاعل مع العقل الرقمى لهذه الأجيال، لأن المستقبل السياسى والاجتماعى والعملى، هو بأيدي وعقول هذه الأجيال وتطلعاتها المختلفة عن الأجيال الأكبر سنا فى السلطة والمجتمع العربيين.
المصدر: الأهرام
 
				

