
أولا: في تركيا
في تطور كان مرتقبا أعلن حزب العمال الكردستاني التركي الأحد 26 / 10 / 2025 سحب جميع قواته المسلحة من الأراضي التركية، وتوجهها إلى جبال قنديل داخل إقليم أراضي كردستان العراق، الخطوة التي جاءت متأخرة جاءت في سياق خارطة الطريق المعتمدة التي تم التوافق عليها بين التحالف الحاكم في أنقرة وممثلي الحزب منذ استجاب الحزب لنداء زعيمه عبد الله أوجلان الذي وجهه من سجنه في جزيرة إيمرالي في 27 / 2 / 2025 مطالبا “بحل الحزب، وإلقاء السلاح، واعتماد سبل العمل السياسي الديموقراطي داخل تركيا”، وجاءت هذه الاستجابة عبر تبني المؤتمر الثاني عشر للحزب المنعقد في 12 أيار / مايو 2025 نداء زعيمه، بإغلاق ملف التمرد المسلح الذي مضى عليه 46 عاما، وأسفر عن مقتل أكثر من ستين الف تركي بين مدني وعسكري، وتكلفة مادية قد تلامس 500 مليار دولار.
بيان الأحد علل القرار بأنه يستهدف تجنب وقوع صدامات عسكرية غير مرغوب بها وتهيئة مناخ مناسب لعملية السلام، وفي هذا التعليل إشارة خفية إلى تجارب سابقة بين الحكومة التركية والحزب لم تفلح. وطالب بخطوات من الحكومة والبرلمان لترتيب دمج عناصر حزب العمال الكردستاني في الحياة المدنية والسياسية التركية.
المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية “عمر جيليك” اعتبر أن انسحاب “العناصر الإرهابية” من الأراضي التركية، وإعلانها خطوات نحو نزع السلاح، يمثلان تقدما مهما يتماشى مع الهدف الرئيسي المتمثل في بناء “تركيا خالية من الإرهاب”، ونبه إلى أن الحكومة التركية تنفذ خارطة الطريق بثبات رغم الاستفزازات السياسة الفوضوية في المناطق المجاورة.
هل يمكن لمسيرة السلام التركية الحالية أن تنتكس؟
الجواب ممكن، وقد سبق أن انتكست مرتين على الأقل، لكن يمكن تحصين هذه المسيرة بطرق عديدة من أهمها مراجعة جادة يقوم بها حزب العمال الكردستاني، أو تقوم بها قيادته التاريخية تعترف من خلالها بخطأ انتهاج “الصراع المسلح” للوصول إلى الحقوق، أو ما يعتقد أنها حقوق. وأن طريق ” النضال الديموقراطي السلمي” هو الطريق الصحيح ـ الأقرب والأقل تكلفة ـ بين أبناء الوطن الواحد لتحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية والثقافية لمختلف مكوناته.
إن نقدا صادقا علنيا كهذا من شأنه أن يثبت طريق السلام والأمن والتسوية، ويبني فضاء لمصالحة تاريخية شاملة.
ثانيا: في سوريا
هذا التطور في سياق التخلص من مرحلة “التمرد المسلح” الموسوم من معظم دول العالم ذات الشأن بالإرهاب مهم جدا للدولة التركية، ولحزب العمال الكردستاني، ولجهات كثيرة في المحيط والعالم، لكن له في سوريا أهمية خاصة، لأن للحزب امتداد في وطننا ممثل ب “حزب الاتحاد الديموقراطي”،”PYD”، الذي أنشئ في 20 أيلول / سبتمبر 2003، كفرع من الحزب الأم.
ورغم انتماء PYD بداية إلى العمل السياسي الوطني المعارض في سوريا، ثم إلى هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي المعارضة للنظام الأسدي عقب انطلاق الحراك الثوري في مارس 2011، إلا أنه تدريجيا تحول إلى قوة عسكرية ذات نفوذ، متناقضا بذلك مع استراتيجية هيئة التنسيق، وبذلك خرج عنها.
ومع تطور الوضع العسكري في سوريا لصالح فصائل المعارضة المسلحة، انفرد بعلاقة خاصة مع النظام الأسدي تميزت ب “التخادم الميداني” بين الطرفين، بحيث تتسلم قوات الحزب المواقع والتجهيزات التي تضطر القوات الحكومية الى التراجع عنها نتيجة ضغط فصائل المعارضة المسلحة. وبحيث تؤمن هذه القوات احتياجات النظام مما وقع تحت يدها من ثروات.
وبذلك بسطت هذه الميليشيات نفوذها على منطقة واسعة من الجزيرة السورية في شمال شرق سوريا بما تتضمنه من ثروات بترولية ومعدنية وزراعية، وبما تقوم بها من عوالم “حضرية” معظمها ذات أغلبية عربية، وبنصيحة من القيادة الأمريكية الميدانية في سوريا الراعية والحامية لهذه الميليشيا، أقام الحزب ما صار يعرف باسم “قوات سوريا الديموقراطية ـ قسد”، وعبر قسد أمكن إشراك عناصر من قبائل عربية وغير عربية بهذه الميليشيات المسلحة بدعوى “مقاومة داعش”
ما هو مهم في هذا العرض أن قسد هي واجهة لحزب الاتحاد الديموقراطي، الذي هو فرع لحزب العمال الكردستاني، وهو يعتبر المناطق التي يسيطر عليها أرضه، وجزء مما يدعوه “روج آفا”.
وما هو مهم أيضا أن جزءا من قيادات هذا الحزب وبالتالي من قيادات قسد هم في الحقيقة عناصر وقيادات في حزب العمال الكردستاني التركي.
ما عرضناه حتى الان معروف ودقيق وموثق، وحين نأتي عليه بعد استعراضنا لتطور العلاقة بين حزب العمال الكردستاني وتركيا فإننا نفعل ذلك للآثار المتوقعة لهذه المستجدات.
لقد أُعلن عن انسحاب العناصر المسلحة من حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى إقليم كردستان العراق، إن هذا يفتح الباب واسعا لانتقال هؤلاء إلى مناطق قسد في سوريا، خصوصا وأن من هؤلاء المقاتلين عناصر وقيادات لا توافق على قرار زعيمها أوجلان ومن ثم قرار مؤتمر الحزب بحل التنظيم والقاء السلاح.
ومناطق قسد هي مناطق متاخمة للأراضي التركية، أي أنه بات متاحا لمسلحي حزب العمال الكردستاني أن يكونوا قوة عسكرية إضافية لقسد على الأرض السورية، وعلى الطرف الآخر من الحدود مع تركيا، إن هذا يمثل خطرا مستمرا على تركيا، لأنها تصبح هنا بمثابة قوة احتياط لأي انتكاسة يمكن أن تصاب بها مسيرة السلام التركية الكردية داخل المجتمع التركي، كما يمثل خطرا أكبر على الأمن الوطني السوري، ويعزز النزعات والمطالب الانفصالية التي أعاقت حتى الآن التوصل إلى حل وطني حقيقي لأزمة “قسد”.
صحيح أن أزمة “قسد” هي واحدة من الازمات التي تعترض تطبيع الوضع في سوريا، لكنها هي الأخطر والأهم، وهي الأولى بالحل والمعالجة.
في مناطق قسد تتجمع خيوط الأزمة العامة المتعددة الأوجه في سوريا، التي تمنع بناء سوريا الموحدة شعبا وأرضا، وتعيق إقامة سلطة وطنية على كامل الجغرافيا السورية:
** ضباط وعسكريون من النظام البائد يتجمعون في مناطق قسد، ويعملون تحت قيادتها، ويشكلون مجموعات عسكرية، تتأهب للعب أدوار مخربة، مصادر الأخبار ذكرت أن آلافا من قوات النظام البائد، وخصوصا من القوى الطائفية التي ارتكبت جرائم خلال السنوات الأربعة عشر الماضية، والتي تخشى من المحاسبة لجأت إلى مناطق قسد، أو كانت بالأصل في تلك المناطق، وصارت تحت حمايتها، واعترف قادة قسد بهذه الحقيقة، وذكرت الأنباء أنه قد تم تشكيلها في وحدات عسكرية وتحضيرها لمهام لاحقة. وهؤلاء موجودون في الحسكة، والقامشلي، والرقة، والطبقة، وعين العرب.
** هناك تواصل منظم بين قسد وضباط وقادة من النظام السابق في مناطق الساحل، وفي لبنان، في محاولة لتنظيم أنفسهم وتحضيرهم لأي تحرك قادم. ويتحرك هؤلاء بتنسيق مع إيران ومع جهات من حزب الله في لبنان.
** هناك خطوط مفتوحة بين قسد والانفصاليين في السويداء، في إطار فكرة وتصور “ممر داوود” الذي يستهدف فتح طريق آمن بين الكيان الصهيوني ومناطق السيطرة القسدية في الجزيرة السورية، أي من الجولان السورية المحتلة ودرعا والسويداء الى مثلث التنف، والبادية السورية فدير الزور حتى نهر الفرات ومن ثم شمال العراق. وكل ذلك في إطار “إسرائيل الكبرى” وعلى قاعدة تفتيت سوريا، وفي هذا التصور يصبح الدور القسدي مركزيا.
** يتوفر لهذا الدور القسدي التمويل اللازم من ثروات الدولة السورية الممثلة في 90% من البترول والغاز، وتعتبر هذه المنطقة الخزان الغذائي ( الحبوب والثروة الحيوانية)، وتقوم السيطرة على هذه الثروات بدور مزدوج إذ تمنع عن الحكومة السورية مصادر التمويل الوطنية، وتوفر لقوات قسد مصادر تمويل لا تنضب.
وإضافة إلى العوامل السابقة التي يرسمها ملف قسد فإن هناك عاملين اثنين تستفيد منهما قسد، لكنها لا تصنعهما:
** العامل الأول تعثر النظام السوري الراهن في معالجة الأزمات الوطنية التي تمر بها سوريا، وفي مقدمتها الأزمة الطائفية، وأزمة الديموقراطية، والتعددية السياسية، وأزمة إدارة أجهزة الدولة ومؤسساتها.
**العامل الثاني تعثر النظام السوري في تحقيق تقدم في معالجة الأزمات الحياتية في سوريا، مما يعني تفكك مظاهر الوحدة والتكاتف التي عمت المجتمع السوري في الفترة الأولى لسقوط النظام البائد، فالسوريون الذين يريدون توفير الحد الأدنى من أسس الحياة الكريمة لم يلمسوا بعد خطوات حقيقية على هذا الطريق.
إن لهذين العاملين تأثير كبير على الحصانة التي يوفرها الرضا الشعبي لأي نظام، وبالتالي فإن من شأنهما أن يزيدا من الضغط الذي تستعرض له القيادة في دمشق.
سوريا ستعبر مأزق قسد الذي تعيشه في هذه المرحلة، قد يزيد الثمن والتضحية وقد ينقص، لكن لابد من عبوره، وإن المشروع “القسدي” الانفصالي سيصل إلى الفشل طال الزمن أو قصر، وتجربة حزب العمال الكردستاني في تركيا مثال أمامنا. لكن القضية التي تستأهل أن نتوقف عندها تخص الثمن. وتخص قدرة المجتمع السوري بكل مكوناته على تحمل هذا الثمن.
وإذا كانت قيادة بحجم وقوة ومكانة وجاذبية “عبد الله أوجلان ـ آبو” قد توصلت، بعد مسيرة استمرت نحوا من خمسة عقود، وبعد ضحايا تجاوز عددهم الستين ألف قتيل من مدنيين وعسكريين إلى أن الطريق الوحيد الممكن لمعالجة أي موضوع، وللوصول إلى أي حق لا يكون إلا من خلال النضال السياسي والعمل الديموقراطي، والمحافظة على وحدة وتماسك الدولة والمجتمع. واستطاع “آبو” بقامته هذه أن يعترف بهذه النتيجة وأن يتخذ القرار الصحيح بسلوك هذا الطريق، فإنه أحرى بحزب الاتحاد الديموقراطي وأداته العسكرية “قسد” أن يأخذ الطريق نفسه، ويجنب سوريا المدمرة ومجتمعها الجريح طريقا من الدم لن يجدي.
الحواضر السورية من القامشلي إلى الحسكة إلى عين العرب إلى الرقة والطبقة لم تكن يوما جزءا من وهم “روج آفا” ولن تكون، وإن المكون الكردي جزء أصيل من بنية المجتمع السوري، ومن هويته. وصانع رئيسي من صناع تاريخه وحياته الاجتماعية والسياسية، وإذا كان هناك تصور لمظلومية كردية في المجتمع والتاريخ السوري، حقيقية كانت أم وهمية، فإن حلها لن يكون إلا في إطار النضال السياسي الديموقراطي داخل المجتمع السوري، لسنا بحاجة إلى تكرار التجربة البائسة والدامية التي مر بها المجتمع التركي لنصل إلى النتيجة نفسها.
والسؤال الذي يبحث عن جواب هل في قوى المشروع الانفصالي الكردي قائدا مثل أوجلان، يستطيع أن يخطو مثل خطوته، مستفيدا من كل تجربته، ليكون بذلك بانيا حقيقيا في سلام سوريا واستقرارها وتقدمها.
30 / 10 / 2025
 
				





