النيوليبراليّة والطبقة الوسطى المصريّة

    أحمد طه

                                                             

أعلنت الحكومة المصريّة رفع أسعار الوقود للمرّة الثانية خلال العام الحالي، وراوحت الزيادة الجديدة بين 10.5% و13%، وشملت جميع أنواع البنزين والسولار، بالإضافة إلى أسطوانة الغاز المنزلي، على أن تُثبَّت الأسعار في السوق المحلّي عاماً على الأقلّ، وفقاً لبيان وزارة البترول. ويأتي هذا تماشياً مع سياسة الحكومة الرامية إلى خفض الدعم وعجز الموازنة، وتوقّع مراقبون أن تدفع الزيادة الجديدة إلى تسارع معدلات التضخّم خلال الشهرين القادمين، وصولاً إلى نهاية العام، ليصل إلى مستويات تراوح بين 12.5% و14%، بعدما كان قد انخفض في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) إلى 11.7%.

النقطة اللافتة هي الزيادة في سعر لتر السولار، مقارنة بسعره في مارس/ آذار 2024، حيث زاد سعره على الضعف، على عدّة مراحل خلال نحو عام ونصف عام فقط، وهي قفزة كبيرة لها تبعات عديدة على أسعار كل السلع تقريباً، نظراً إلى أن السولار بالتحديد عصب أساسي في الحياة الاقتصاديّة، فهو الوقود المُستخدَم في نقل السلع والبضائع في المقام الأوّل، كذلك فإنه وقود الآلات الزراعيّة وآلات إنتاج الورق، بالإضافة إلى موادّ البناء، فزيادة سعره تؤدّي، تلقائيّاً، إلى موجة تضخّميّة، لأنها ترفع تكلفة نقل جميع السلع الأساسيّة والبضائع والمنتجات الغذائيّة، مثل الحبوب، والدواجن، واللحوم والزيوت، والألبان، والبيض، فضلاً عن الخضروات والفاكهة والورق، وهو ما ينعكس مباشرة على الأسعار، ولا سيّما أن السولار هو الوقود الأساسي المُستخدَم في وسائل النقل التجاريّة، علماً بأن تكلفة النقل تعادل نحو 20% من أسعار البضائع. والزيادة المعلنة أخيراً في أسعار الوقود هي العشرون منذ بدء عمل لجنة التسعير التلقائي للمنتجات البتروليّة في يوليو/ تموز 2019، والسابعة منذ توقيع الحكومة المصريّة اتفاق قرض صندوق النقد الدولي البالغة قيمته ثمانية مليارات دولار في ديسمبر/ كانون الأول 2022.

تقوم فلسفة النيوليبراليّة المُهيمنة على عقليّة المؤسسات الماليّة الدوليّة، على أن المظلّة الاجتماعيّة ودعم التعليم، والصحّة، والإسكان، السبب الأساسي في حدوث الأزمات الاقتصاديّة وتفاقمها في مختلَف الدول، وتحمل النيوليبراليّة نزعة عدوانيّة على كلّ مكتسبات الطبقة الوسطى، وما حصلت عليه من حقوق خلال العقود الماضية، عبر المؤسّسات المجتمعيّة مثل النقابات المهنيّة، فلا يفتأ أنصار النيوليبراليّة من مطالبة واضعي السياسات الماليّة، في الدول الخاضعة لروشتّات “الإنقاذ” المُقدَّمة من صندوق النقد الدولي، من كفّ أيديهم عن دعم الخدمات التعليميّة، والصحيّة، والسكنيّة، وإطلاق العنان لحريّة السوق من دون تدخّل أو توجيه حكومي، من أجل تعافي الاقتصاد وزيادة معدّلات النموّ. وقد أدّت السياسات النيوليبراليّة في مصر في السنوات الماضية إلى موجة من الضغوط والتخلخلات الطبقيّة والاجتماعيّة، وقد انصبّ جلّها على الطبقة الوسطى التي تلّقت القسط الأوفر من تبعات تلك السياسات التي جعلتها تقف عزلاء في مهبّ الريح تواجه مأزقاً تاريخيّاً، لم يتوقّف عند تآكل قدراتها الشرائيّة وتقلّص مقدرتها الاستهلاكيّة، بل قذف بها في مهاوي العوز والفاقة. والأهمّ أن تلك السياسات النيوليبراليّة قد أحدثت هزّة عنيفة في تكوين الطبقة الوسطى، والسمات المميّزة لها.

ثمّة أصحاب مهن بعينها مثّلوا خلال العقود الماضية الأعمدة الرئيسيّة للطبقة الوسطى المصريّة، وهم أصحاب المهن الحرّة عالية المهارة، مثل الأطبّاء، والصيادلة، والمهندسين، والمحامين، والمحاسبين، إلى جانب أساتذة الجامعة وكبار الموظّفين في الجهاز الإداري، ممّن دأبت الأدبيّات الاقتصاديّة على وصفهم بأصحاب الياقات البيضاء، من الذين يعتمدون على مهارتهم المهنيّة في تحصيل دخولهم، ولا يملكون أصولاً إنتاجيّة تدرّ عليهم ريعاً ثابتاً.

هزّة عنيفة في تكوين الطبقة الوسطى، والسمات المميّزة لها

وقد كانت تلك الفئات تتمتع بقدر من الأمان الوظيفي، والاستقرار والاستقلال المهني، في آنٍ واحد، بَيْدَ أن موجة من الهزّات العنيفة قد ضربت صفوفها، بدرجات متفاوتة، خلال العقدين الماضيين جرّاء توسّع المنظومة النيوليبراليّة.

أدّت النيوليبراليّة إلى تغييرات واسعة في المراكز النسبيّة لتلك الفئات، ولا سيّما المنتمين إلى القطاع الطبّي على سبيل المثال وليس الحصر، فقد زحفت البطالة تدريجيّاً إلى صفوف الصيادلة، إلى درجة أن صيدليّات صغيرة تُغلق أبوابها بين حينٍ وآخر، ولا يرجع هذا إلى زيادة عدد الخرّيجين فحسب، ولكنه يرجع إلى عدّة عوامل أخرى، أهمّها حالة الرَسْملَة الواسعة، التي تعرّضت لها المنظومة الطبيّة في العقدين الأخيرين، والانتشار الواسع لسلاسل الصيدليّات، وهي ظاهرة جديدة نسبيّاً آخذة في التمدّد، شأنها شأن المستشفيات الخاصّة، فصار الطبّ الرأسمالي أو “البيزنس الطبّي” هو الأصل، والخدمات الطبيّة النيوليبراليّة التي يتغلّب فيها الجانب الفندقي على الجانب الطبّي، هي القاعدة بعد تجريد الأمر من بُعديه الاجتماعي والإنساني.

أحالت سلاسل الصيدليّات المملوكة لكبار “الحيتان” من محتكري الدواء كثيرين من الصيادلة من فئة “البورجوازيّة الصغيرة”، ممّن يملكون صيدليّات خاصّة بهم، يكبر نشاطها أو يصغر، إلى فئة “الشغّيلة”، ممّن يعملون في فروع السلاسل بأجور ثابتة، غالباً ما تكون غير عادلة، بسبب زيادة المعروض على المطلوب، والزيادة المُطردة في أعداد الخرّيجين، وهو تحوّل اجتماعي كبير يستحقّ النظر، والأمر نفسه ينطبق على صغار الحال ومتوسّطيها من الأطبّاء الذين تحوّلوا أيضاً إلى “شغّيلة” في المستشفيات الاستثماريّة، ولم تسعفهم إمكاناتهم على الاستقلال بعيادات خاصّة.

أدّت السياسات النيوليبراليّة في مصر في السنوات الماضية إلى موجة من الضغوط والتخلخلات الطبقيّة والاجتماعيّة

نزحت غالبيّة الصيادلة المنتمين إلى “البورجوازيّة الصغيرة” من المُدن إلى الهوامش والأطراف، حيث فضّل كثيرون منهم افتتاح صيدليّات في الأرياف، على العمل في المُدن بسبب الأرقام الفلكيّة، التي وصلت إليها أسعار الصيدليّات (الإيجار والتمليك على السواء) من جهة، وإلى جانب المنافسة الشرسة التي يتعرّض لها أصحاب الصيدليّات الصغيرة من السلاسل الكبيرة من جهة أخرى. وينطبق الأمر نفسه على صغار الحال ومتوسّطيها من الأطبّاء الذين نزحوا للعمل في الأرياف، بافتتاح عيادات خاصّة أو مستوصفات صغيرة، بعدما كادت المُدن أن تكون حِكراً على الأسماء الكبيرة، أو العيادات المشتركة لعدد من الأطبّاء، والأمر نفسه ينطبق بصورة أو بأخرى لا يتسع المجال للتفصيل فيها، على المهندسين والمحامين، وصولاً إلى مهن حديثة نسبيّاً مثل العاملين في مجال البَرمَجة والحَوسَبة، حيث ينتشر العمل بدوامٍ جزئيٍ غير ثابتٍ، بتعاقداتٍ مجحفةٍ، وأجورٍ غير عادلةٍ دون غطاءٍ تأمينيٍ.

الجدير بالنظر هنا أن المنظومة النيوليبراليّة التي قلّصت بشدّة من الدور الاجتماعي للدولة، وأوصلته إلى درجة الحدّ الأدنى، وصولاً إلى تغييبه في بعض الأحيان، قد ألقت بظلالٍ كثيفةٍ على الخريطة الاجتماعيّة، وتركيبة الطبقة الوسطى، بعدما عصفت عصفاً بفئاتٍ مهنيّةٍ، كانت في الماضي في مأمَنٍ إلى حدٍّ كبيرٍ من الضربات المتلاحقة للمنظومة النيوليبراليّة، وأفقدتها ما كانت تتمتّع به من استقرار وظيفي، وألقت بها في أتون القلق والخوف ممّا يحمله المستقبل، وهو ما يدفعنا إلى استعادة مقولة رمزي زكي التي عَنوَن بها كتابه “وداعاً للطبقة الوسطى”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى