
منذ وَعْد وزيرة خارجية أميركا كوندوليزا رايس في عام 2006 بتشكيل شرق أوسطٍ جديد، لا تزال واشنطن وعواصم غربية وعربية تلح في الأسئلة بحثاً عنه، فلا شرقَ أوسط تشكّل، ولا عاصمة تدرك ملامح أو موعد تخليقه. الفوضى والعنفُ المسلّح هما ما يزدهران في المنطقة. فصولُ التدمير تتوالى من شوارع بغداد إلى أحراش لبنان ثم أزقة غزّة. العنف المسلح لم يقتصر على آليات الحرب الأميركية – الإسرائيلية، بل تورطت أيادٍ عربية في لعبة العنف القذرة ومستنقع الدم. بقعُ الصراع اللاعقلاني واللاأخلاقي انتشرت في مصر وليبيا واليمن والسودان. قسمات الشرق العتيق تهشّمت، لكن ملامح الشرق الجديد لم تتبلور بعد. عناصر الأطماع في الشرق الأوسط تتصاعد على موقعه، وفرص الاستثمار في خيراته فوق الأرض وفي باطنها وأسواقه وفوائضه المالية، لذلك هو فضاءٌ مفتوح للسباق والتنافس، لهذا تتدخل روسيا بطموحها الرأسمالي، والصين بنهمها في غمر الأسواق كثيرة التنوّع غزيرة الإنتاج رخيصة الأثمان، بما في ذلك منتجاتها البشرية. السودان واحدٌ من حقول المنطقة الخصيبة المنفتحة لرياح كل تلك الأطماع.
***
كما في بلدان المنطقة، توجد في السودان قوى تطمح إلى التغيير. مثل كل تيارات الخير والتقدّم والجمال ترغب في صناعته. هي تودّ أن تكون فاعلة وترفض أن تكون مضافة. كذلك هناك تياراتٌ لا تكتفي بالممانعة ضد التغيير، لكنها لا ترفض المشاركة في عمليات التدمير. ليست هذه معضلة السودان وحده، كما أنها ليست معضلته الوحيدة، فالتقدّم نحو الخير في حياة الشعوب يتم إنجازه عبر الحوار، ليس بالتناحر، كما أنه لا يُنجز تحت الضغوط الخارجية. الإسلام السياسي يجسّد أحد أبرز المحاور الملتهبة على خريطة التغيير في الشرق الأوسط الراهن. على الرغم من غلبة العلمنة على العلاقات الدولية، يصرّ رهط الإسلام السياسي على تلبيس الصراع في المنطقة وعليها كساء دينياً، كأنهم لا يريدون عمداً مع كل الإصرار تبرئة الدين من أراجيف السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والعسكر.
السودان واحدٌ من حقول المنطقة الخصيبة المنفتحة لرياح كل الأطماع
***
لولا إخفاق التيارات السياسية والفكرية في إحداث التغيير المنشود لما تكالبت القوى الأجنبية على خيرات المنطقة واستوطأت شعوبها. في صدارة عناصر الإخفاق، يأتي التكبر والصلف، إذ لا ترفض هذه التيارات ممارسة فروض المراجعة والنقد الذاتي، بل تجنح دوماً إلى فرضيات التآمر والمؤامرة والمتآمرين. بفعل استشراء هذه العاهة والخمول الفكري، سهُل تحويل كل الوطن من مرمى التهديد إلى منبت التهديد على السلم الإقليمي والدولي. أكثر من ذلك، جرى دمغ الإسلام بالإرهاب بدلاً عن كونه عقيدة التسامح والإخاء. هكذا ساهم الإسلام السياسي في تعقيد العلاقة بين المواطن والوطن، فلم يعد الجدل وقفاً عند مسألة فصل الدين عن الدولة، بل أقحم الدولة في إشكالات الفصل بين مُثل الدين والممارسات الدنيوية. هكذا حمّلوا الإسلام من اللحاجة والتنطُّع أثقل مما ينبغي لهم، بل مما هو براء.
***
هذه الصورة المشوّهة أكثر رسوخاً في السودان، إذ تدرّج الحال العام من التماسك الوطني إلى التمزّق. الأنظمة العسكرية المتعاقبة عطّلت آليات الحوار المتكافئ. أضاف “عهد الإنقاذ” تعطيل مفهوم المواطنة على مستوياتها الثلاث؛ المدنية، والسياسية والاجتماعية، حسب توصيف عالم الاجتماع البريطاني توماس مارشال. فالنظام صادر حرية التفكير، والاعتقاد والتعبير، كما صادر حرية المواطن في صناعة السياسة. أسوأ من ذلك ذهب إلى احتكار فرص الرفاه الاقتصادي والسلم الاجتماعي. أفضى هذا التعسف الممنهج إلى تحلل العلاقة بين المواطن والدولة. في هذا الفالج، نبتت أحراش العنف والتحقير والكراهية، فتشكّلت بؤر العنف المضاد. لا فرق بين ما نجم على نحو تلقائي وما تشكّل بنهج مُصنّع. المواطنة أكثر المفاهيم المتضرّرة بهذه التراكمات. ليس هذا الخلل حكراً على العلاقة بين المواطن والدولة، بل في مفاهيم بنى ومقومات الدولة الوطنية نفسها.
حلم غرنغ بسودانٍ موحّد ينعم بالمساواة والعدل والسلام لم يتبدّد فحسب، بل غرق الوطن في مستنقع الكراهية، والتشرذم والاحتراب
دفع هذا الارتباك في الداخل الدولة إلى علاقات خارجية مشوبة بالاختلال. دفعت تلك الممارسات الوطن بأسره لجهة أزقة سياسات المحاور الداخلية والخارجية الضيقة، فانزلقت إليها التشكيلات السياسية المدنية والعسكرية.
***
النتيجة انفجار من الداخل بفعل تراكم الإحباطات الناجمة عن سوء الإدارة، فرفعُ السلاح في وجه الدولة تزامن مع تصاعد معدّلات البطالة والفساد والجريمة والهجرة. لم ينجُ النظام نفسه من مظاهر التشقق والتفسخ والتفكك. لم تخرج مليشيا الجنجويد من رحم الجيش كما يقال، بل من رحم النظام المسكون بالارتباك والخوف. هو نطامٌ عاجز تماماً عن إدراك حتمية معالجة أزماته المستفحلة بخيارات التغيير والديمقراطية. ربما لأن ولادة مشروع التغيير جاءت قسريّاً وقيصريّاً فلم يأت الوليد في عنفوانه، بل خرج إلى الحياة مسكوناً بجينات البيئة السياسية غير المعافاة، فالحاضنة، كما يقال، هي الأخرى مأزومة بفيض من العلل، فلم تحسن حضانته، فتعينه على الصمود، أو تقوى هي نفسها على التماسك والثبات، فكما لا يزال الشرق الأوسط يبحث عن الشرق الأوسط الجديد حسب وعد كوندوليزا رايس، لا يزال السودانيون نادمين على إجهاض فرصة إنجاز حلم جون غرنغ “السودان الجديد”.
***
أغرق وعد الوزيرة الأميركية السابقة الشرق الأوسط في فوضى أمست عصية على الاحتواء والسيطرة، حتى على الأميركيين أنفسهم. حلم غرنغ بسودانٍ موحّد ينعم بالمساواة والعدل والسلام لم يتبدّد فحسب، بل غرق الوطن في مستنقع الكراهية، والتشرذم والاحتراب وفرار الشعب إلى المجهول. في الحالتين، يغلب اليأس الأمل والاكتئاب التفاؤل!
المصدر: العربي الجديد






