
احتفل العالَم أمس الخميس باليوم العالمي للغة العربية. اللغة التي يكتبُ بها العربي وتعدُّ من أقدم اللغات الحيّة الباقية بين لغات العالم. وقد احتفظت هذه اللغة، خصوصاً في بنيتها النحوية والصرفية، بالكثير من خصائصها الأصلية كما كانت في نشأتها الأولى تقريباً. ورغم هذا الثبات البنيوي، فرض الواقع المعاصر والمتغيّر على العربي قضايا جديدة لم تعرفها اللغة سابقاً، خاصة ما يتعلّق بالحياة المدنية والتقنية الحديثة.
دفعت هذه الفجوة بين ثبات اللغة وتطوّر الحياة بعض المعنيين باللغة والثقافة والفكر إلى وصف هذه القضايا بأنها “دخيلة” على اللسان والفكر العربيين، بينما ذهب آخرون إلى حدّ زعم أن اللغة العربية، لعدم مواكبتها هذه المتغيّرات، أصبحت ميّتة أو شبه ميتة، ودعا تيار ثالث إلى إصلاح هذا العجز. واختلف هؤلاء المتباينون في طرق الإصلاح المقترحة: فمنهم من طالب بإعادة النظر في صرفها ونحوها، ومنهم من نادى بإحلال العامية محلّها، ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك، فاقترح تغيير صورتها كلّها واعتماد الحرف اللاتيني بدلاً من الحرف العربي، غير أن تلك المحاولات جميعها لم تمس جوهر المشكلة. فهل المشكلة في طبيعة اللغة نفسها، أم في الإنسان، أي في منهج تفكيره وطريقة استعماله للغة؟
… تؤثر اللغة العربية، ببنيتها الخاصة، في النظام المعرفي الثقافي العربي، وتتميز من غيرها بخصوصية تجعلها كما هي عليه اليوم. لكنّها، مثل لغات البشر كلها، لا تفرض على العقل مساراً واحداً للتفكير، ولا تتحكّم في الفكر إلا إذا سمح الإنسان لها بالهيمنة على طريقة تفكيره. فاللغة بطبيعتها مرنة وقادرة على التكيّف مع حركة العقل وتلبية حاجاته الفكرية. ومن هنا، يصبح أي قصور أو عجز يُنسب إليها مسألة معرفية وفكرية وثقافية بالدرجة الأولى، لا مسألة لغوية.
المسألة، إذن، ليست في اللغة العربية نفسها، وإنّما في بنية معرفية وثقافية هيمنت، لعوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية، على طرق إنتاج المعرفة عند العرب، ووجهت أساليب البحث والتفكير نحو الالتزام بالنصوص الدينية وإعادة إنتاجها معرفياً بالإيمان، أي ضمن علاقة النقل، حيث يصبح النص يقيناً كاملاً ونهائياً، والمعرفة هي اكتشاف ما ينطوي عليه من دون إقحام رأي أو ابتكار جديد. ومن هنا يمكن أن نفهم كيف أثّر الإيمان بأسبقية الحقيقة على العقل، وبقدرة النص الديني على الاشتغال باللغة، فانصرف الباحثون إلى العناية بكل ما يتوافق مع هذا النص، تاركين الواقع المادي ووقائعه، وكلّ ما يتعلق بأدوات الحضارة والحركية الحضرية. وترتّب على ذلك فائضٌ كلاميٌّ مجرّد يتحرّك في عزلة عن الواقع وأشيائه، وفائض من الأشياء المادية والحضرية يتحرّك في عزلة عن اللغة. ونتجَ هذا الانفصام عن بنية التفكير التي تهتم بالروح قبل المادة، وبالإيمان قبل الواقع الحياتي، ولم يكن انفصاماً لغوياً بطبيعته.
أهمية الإنجاز في أنه يوفر للعقل العربي معطيات تمكنه من إعادة صياغة المعرفة، وتجاوز الانحصار في النصوص الدينية أو الشعرية
من هذا المنطلق، تصبح بداية الإصلاح الحقيقي في تجاوز المرجعيات المعيارية المسبقة، وتمكين الفكر من التساؤل خارج البنى الدينية اليقينية، وطرح أسئلة لم تكن مطروحة تاريخياً: ما الإنسان؟ ما العالم؟ ما طبيعة العلاقة بين الإنسان والنص؟ وكيف يمكن استكشاف الحياة والمعرفة خارج النص؟… بالرغم من القيود التاريخية، اللغة العربية بطبيعتها قادرة على الإجابة عن هذه الأسئلة، وتسمية العالم والإنسان وأشياء الوجود بما يتجاوز النص الديني، غير أن القيود المعرفية والسياسية كانت أقوى من كونها لغوية.
تاريخياً، كانت المعرفة عند العرب نصيّة، تعتمد على الفهم الديني أو الشعري، ولم تكن استكشافاً للعالم بالعقل بشكل مستقل. ومن هنا برزت أهمية النحو، بوصفه أداة لضبط اللغة وضمان فهم النصوص بدقة. وبالمثل، كان الشعر الجاهلي يُعامل بوصفه نصاً ثانوياً يساعد على تفسير النصوص الدينية، وليس مصدراً مستقلاً للحقيقة. أما أسرار اللغة العربية في الصوت والإيقاع والملاءمة بين المعنى والصوت، فهي تعكس ملكة الإنسان وقدرته على الإبداع، ولا تنبع من طبيعة اللغة نفسها.
إذن، يعود القصور المنسوب إلى اللغة اليوم إلى بنية معرفية وسياسية سلطوية هيمنت على استعمالها، وجعلت اللغة آلة لتكرار النصوص لا لاستكشاف الواقع، وحوّلت الكلمات إلى أوعية جامدة تمتلئ بـ”الأفكار”، لتصبح أدوات لتثبيت النظام الأيديولوجي، فتغدو اللغة قاطرة تسير على سكة واحدة، بما يحافظ على استمرار هذا النظام المعرفي والاجتماعي، ويعزلها عن حركة الحياة وتطورها الطبيعي.
في هذا السياق، يكتسب إنجاز معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بعداً معرفياً وثقافياً بالغ الأهمية، بوصفه مشروعاً لإعادة بناء الذاكرة اللغوية للغة وربط الحاضر بتاريخها العميق، على نحو يتيح للغة العربية أن تستعيد قدرتها على الاحتواء والاستيعاب، وأن تصبح أداة فعالة للتفكير والاستكشاف. وليس بوصفه مجرد توثيق للفظ أو تصريف، فالمعجم، من خلال توثيقه للكلمة العربية منذ نشأتها وحتى استخداماتها التاريخية المختلفة، يكشف عن امتداد المعنى وديناميكية الدلالة، ويبيّن كيف أن اللغة، رغم ثبات بنيتها الصرفية والنحوية، كانت حية ومرنة في تعاطيها مع العالم والأفكار.
كانت المعرفة عند العرب نصيّة، تعتمد على الفهم الديني أو الشعري، ولم تكن استكشافاً للعالم بالعقل بشكل مستقل
تكمن أهمية هذا الإنجاز في أنه يوفر للعقل العربي معطيات تمكنه من إعادة صياغة المعرفة، وتجاوز الانحصار في النصوص الدينية أو الشعرية، واستكشاف العالم من منظور لغوي معرفي أوسع. فهو يعيد للألفاظ حياتها، ويستعيد للأدوات اللغوية طاقتها الابتكارية، ويتيح للباحثين والمفكّرين رؤية شاملة عن كيفية نشوء المعنى وتطوره، وعن العلاقة بين الكلمة والواقع، بين الصوت والدلالة، بين اللغة والتفكير. ومن ثم، يصبح معجم الدوحة التاريخي مشروعاً لإعادة تأهيل معرفي للغة العربية، وخطوة نحو تحريرها من قيود الماضي، وتوسيع آفاقها الفكرية والثقافية، بحيث تصبح وسيلة لفهم الإنسان والعالم، وليس مجرّد مرآة تعكس ما هو معطى مسبقاً. وهو بذلك يشكل حلقة مركزية في مسار تجديد اللغة العربية وبنيتها المعرفية والثقافية، ويؤكد أن الطريق إلى الإصلاح ليس في تغيير اللغة، بل في تحرير استعمالها، وتمكين العقل العربي من اكتشاف الجديد وإيجاد المعنى في ضوء الحياة المعاصرة، لا في ظل النصوص السابقة وحدها. فاللغة العربية، بهذه الروح، حية، قادرة على التكيف، وموهوبة بالإبداع، وما عليها إلا أن تُستعاد من قيودها التاريخية لتصبح أداة للمعرفة والفكر والحياة.
يستحق التهنئة القائمون على هذا المشروع، فكرةً، وإدارةً، وبحثاً، وإنجازاً وإشرافاً، على هذا الإنجاز المعرفي العربي الذي يتصادف إطلاقه مع اليوم العالمي للغة العربية. ويستحق هذا الإنجاز الاحتفال به بوصفه نموذجاً فريداً للاستثمار العملي للتراث العربي في بناء حاضر لغوي ومعرفي جديد، ومشروعاً يفتح أفقاً للغة لتجربة التعبير خارج الأنماط التقليدية، مانحاً الباحث والمفكر أدوات لإعادة صياغة المفاهيم وتوسيع آفاق الفكر.
المصدر: العربي الجديد






