
في ظل الخذلان والتواطؤ العربي والدولي جاء الاتفاق الفلسطيني والإسرائيلي الممهور بمؤتمر شرم الشيخ الدولي ليرسم معالم المرحلة القادمة من الصراع مع العدو الصهيوني، وليحاول ضبط إيقاع ردود الفعل الفلسطينية إزاء هذا العدو.
وأيا ما كانت تفاصيل ذلك المؤتمر، وذلك الاتفاق الذي لم تظهر خباياه كلها، وأيا ما كانت فرص تطبيقه وسريانه، والتزام الأطراف المختلفة به، فإن اليقين فيه أنه جاء حصيلة تفاعل عوامل عدة كان لكل منها التأثير المباشر .هذه الصورة التي تابعناها وتابعها العالم، والتي أسفرت في حدها الأدنى عن وقف راهن للعدوان الإسرائيلي على غزة، وعن إفراج المقاومة الفلسطينية عن الأسرى الإسرائيليين الذين وقعوا في يد المقاومة خلال عملية طوفان الأقصى، والافراج عن أسرى فلسطينيين، وبدء الانسحاب الإسرائيلي من غزة، وفق ترتيبات تم الاتفاق عليها، أو على العديد منها، وفي حدها الأعلى التطلع إلى مرحلة جديدة من ” عملية سلام الشرق الأوسط” برعاية أمريكية مباشرة ومشاركة عربية وإقليمية غير مسبوقة.
ويمكن اختصار أهم هذه العوامل في نقاط محددة:
العامل الأول: العملية الرائدة التي نفذتها المقاومة يوم السابع من أكتوبر.
وقد دخلت هذه العملية التاريخ باسم “طوفان الأقصى”، وقد كان لها وقع الصاعقة على الكيان، وعلى الدول الغربية جميعا، التي اكتشفت في لحظة واحدة أن المشروع الصهيوني الذي استثمرت فيها كثيرا بات عاجزا عن حماية نفسه أمام تطور قوة المقاومة الفلسطينية، وبات مهددا تهديدا حقيقيا، وبحاجة ماسة إلى تدخل مباشر لحمايته من السقوط.
ولم يأت هذا التهديد نتاج عمل عسكري عربي على هذه الجبهة أو تلك ، موحدة أو متفرقة، وإنما نتاج عملية نوعية للمقاومة، عملية تؤشر في حال نجاحها إلى مرحلة جديدة تظهر في ختامها وبوضوح نهاية هذا المشروع، لذلك كان مطلوبا ليس فقط الاستجابة الجماعية لاحتياجات التصدي لهذه العملية، وإنما الذهاب ـ الى أقصى حد ـ مع التصورات الإسرائيلية في ضرورة تأمين كل ما يحتاجه هذا الكيان من وسائل دعم عسكرية ومادية وسياسية لإجهاض هذا التطور في عمل المقاومة الفلسطينية، ولوضع ختام لمثل هذه العمليات، ولأي تحرك مشابه لها.
لقد استجاب الغرب الاستعماري كله، تتقدمه الولايات المتحدة باعتبارها زعيمة هذا الغرب في هذه المرحلة لتوفير ما يحتاجه هذا الكيان للخروج من هذا المأزق: الدعم العسكري غير المحدود، والدعم السياسي والدبلوماسي الفوري وغير المشروط، والتخلي دون أي حذر عن القيم الأخلاقية والإنسانية التي كانت تضبط الصراعات العسكرية، وجاء قادة هذا الغرب الاستعماري الى الكيان بشخوصهم لإعلان التأييد، فصار كل شيء مباحا أمام العدوانية الإسرائيلية من القتل الممنهج للمدنيين والنساء والأطفال والأطباء والصحفيين، إلى تدمير مظاهر الحياة المختلفة من مستشفيات ومساكن وأحياء، وأماكن عبادة، إلى مراكز إنسانية دولية كانت موجودة في قطاع غزة، الى محاولات التهجير الجماعي للسكان.
وفي ظل هذه الاستجابة غير المسبوقة للغرب الاستعماري بلغ عدد الشهداء في قطاع غزة وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 67869 شهيدا منهم 18592 طفلا، ومنهم 12400 امرأة، ومنهم أيضا 1411 هم شهداء الطاقم الطبي، و252 شهداء الصحافة، و253 شهداء موظفي الأونروا، فيما سجل استشهاد 1051 شهيدا في الضفة الغربية. يضاف الى ذلك 11200 مفقودا منهم 4700 من النساء والأطفال وهؤلاء المفقودين يعتبرون في عداد الشهداء ليلامس بذلك عدد الشهداء الرقم ثمانين ألف شهيد.
الخسائر هائلة، وكانت تشتد يوما إثر يوم على مدى عامين، وباتت تستهدف تهجير الغزيين من أرضهم وتحولهم إلى لاجئين مهجرين إلى سيناء أو الأردن أو أي منطقة أخرى قريبة أو بعيدة، ضمن الوطن العربي أو في مختلف أصقاع العالم، لكن العدوانية الإسرائيلية فشلت في تحقيق هذا الهدف بسبب رفض الغزيين لمبدأ التهجير، ورفض الدول الأخرى المجاورة وغير المجاورة، للمشاركة بإنفاذ هذه الجريمة.
2 ـ العامل الثاني: الصمود الفلسطيني الأسطوري.
صمود مقاتلي المقاومة، وصمود الغزيين عبر هذا الصبر غير المحدود، وتشبثهم بالبقاء في أرضهم ووطنهم وارتباطهم بالمقاومة، رغم الضغوط الهائلة التي تعرضوا لها من القتل والتجويع والتهجير والتدمير لكل مظاهر الحياة.
لقد سجلت قوى الجهاد والمقاومة الفلسطينية التي نفذت العملية الرائدة ” طوفان الأقصى” أداءً مذهلا لفكرها القتالي والسياسي، ولمقاتليها، ولقيادتها العسكرية والسياسية، إلى درجة بات واضحا فيها أن كل الدعم والتواطؤ الذي توفر لقوى العدوان لم تمكنه من تحقيق أي هدف سبق أن أعلنه، ولم يستطع أن يحرر أسيرا واحدا له من يد المقاومة، ولم يستطع أن يحدد أي موقع كان الأسرى يقبعون فيه، ولم تظهر قواته المجهزة بأحدث الأعتدة والأسلحة أي أداء ميداني مميز يمكن تسليط الضوء عليه واعتباره ـ إزاء الداخل الإسرائيلي أو حلفائه الدوليين ـ إنجازا يدل على علو اليد العسكرية الإسرائيلية، اللهم إلا ما كان من قتل وتهجير للمدنيين، وارتكاب مجازر لم يجد الإسرائيليون إزاءها إلا محاولات التبرير الوضيعة التي تثبت أن هذا النظام نظام قتل وتهجير عنصري.
ومما يجب التوقف عنده اكبارا واعتزازا وتقديرا هذا البناء الصلب الذي ظهرت فيه قوى الجهاد، لقد أظهرت المعلومات التي أكدتها الوقائع أن المقاومة حينما قامت بعملية ” طوفان الأقصى” تجهزت لمعركة قد تستمر سبعة أشهر على الأقل، وهذه مدة ليس من اليسير على دول التخطيط لها وتوفير الإمكانات والاحتياجات اللازمة لها، ثم إنها طورت قدراتها القتالية واللوجستية، والاستخباراتية، والتصنيعية، لتعويض ما تخسره في المعارك المستمرة من عتاد ورجال، بحيث بقيت جاهزيتها متوفرة حتى لحظة دخول وقف إطلاق النار حيز التطبيق.
ثم إنها كشفت عن نسق قيادي عالي الكفاءة، لم يكن متصورا، فقد استطاع العدو أن يقتل أنساقا متعددة من القيادات الميدانية والسياسية للمقاومة، بدءا من أعلى المستويات السياسية والقتالية، ومع ذلك لا يبدو أن بنية المقاومة قد تأثرت: فلا خرقا أمنيا قد تحقق للعدو، ولا تراجعا في الأداء القتالي، ولا ضعفا في الأداء السياسي، بل إن المقاومة كانت تظهر دائما وكأنها لم تخسر شيئا من قدراتها القيادية، ثم إنها استطاعت أن تعوض من فقدته من الشهداء من مقاتليها، وإذا اعتمدنا الأرقام الإسرائيلية فقد استشهد للمقاومة أكثر من عشرين الف مقاتل، وأصيب أكثر من خمسة عشر الف مقاتل، واعتقلت قواته الفا وخمسمئة مقاتل.
هذا يعني ان أكثر من ستة وثلاثين الف مقاتل خرجوا من المعركة، ومع ذلك لم يٌلحظ تراجع في عدد مقاتلي حماس والجهاد وفصائل المقاومة الأخرى، وأيضا لم يسجل تراجع في قدراتهم القتالية، أي أن القدرات التجنيدية والتدريبية للشباب الفلسطيني في غزة كانت عالية ومكافئة للتحدي الذي عايشه القطاع، وهذا دليل من أبلغ الدلائل على الصلات العضوية “الحقيقية والقوية والواسعة جدا” التي استطاعت المقاومة أن تنسجها مع أهل غزة قبل الحرب، والتي ازدادت قوة وتماسكا في مواجهة العدوانية الإسرائيلية.
هذه الحقائق التي طبعت المقاومة “قيادة ومقاتلين وبيئة حاضنة” والتي أوقعت مئات القتلى بين صفوف قوات العدو، ومنعته من تحقيق أي من أهدافه، أخرجت رئيس وزراء الكيان عن وعيه، فتفلتت فيه قيود العقل، وصارت تصرفاته أقرب إلى الجنون، وكان من نتائج ذلك المستوى الذي وصل إليه بنيامين نتنياهو الهجوم الذي نفذه في قطر مستهدفا القيادة السياسية المفاوضة للمقاومة الفلسطينية، وهو هجوم غير مسبوق في تاريخ العلاقات والصراعات أثناء الحروب، وقد أسفر فشل الهجوم في تحقيق أغراضه عن فضيحة فاضحة، كان من شأنها في أي أوضاع طبيعية أن تودي بهذه الحكومة، بل وأن تحيل المسؤولين فيها إلى المحاكمة.
إن هذا التوصيف لوضع المقاومة وقيادتها وبيئتها الشعبية الحاضنة توصلنا إلى نتيجة دقيقة وواضحة، وهي أن هذه القيادة أهل لما تقوم به، وهي جديرة بالثقة، في قيادة الحرب والمعارك، كما في قيادة المفاوضات والاتفاقات لذلك كان من حقها علينا أن نطمئن لها، وأن نوليها الثقة الواعية، في عملها العسكري، وفي جهودها السياسية.
3ـ العامل الثالث تمثل في عودة الصراع إلى طبيعته الأصيلة.
فقد انتهت مؤقتا الحرب العدوانية التي شنها الإسرائيليون ممثلين للنظام الغربي، ومجسدين لطبيعة المشروع الصهيوني، وتوقف إطلاق النار مبدئيا، وسجل التاريخ أن أطول حرب خاضها هذا الكيان كانت ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وضد قطاع غزة الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلو متر مربع، وضد ثلة من رجال المقاومة، مهما بالغنا في تقدير عددهم وعدتهم فإنهم لا يمثلون مكافئا ماديا للعدو لا من حيث العدد، ولا من حيث العدة، ولا من حيث مسرح العمليات القتالية، ولا من حيث أشكال الدعم التي توفرت له على المستويات كلها، وكان واضحا أن هناك توافقا مع نظم عربية وإقليمية على ضرورة نجاح العدو في تحقيق أهدافه من هذا العدوان، وكان الهدف الأسمى لهم جميعا أن تكسر وتسحق المقاومة، وأن تظهر “إسرائيل” بكونها القوة التي لا تقهر، وبالتالي أن يكون خضوع المنطقة لها نتيجة طبيعية لهذه الحرب، ومدخلا طبيعيا لولادة “الشرق الأوسط الجديد”، الذي تكون فيها “إسرائيل” سيدة الموقف، المهيمنة على المنطقة، مستعيدة بذلك دورها ومكانتها في المشروع الأصيل الذي وجدت لأجله، بل ومستوعبة وبانية أيضا على ما استجد في بيئة المنطقة والمحيط العربي من تغييرات.
وفي قراءة جبهة الأعداء لهذا المشهد يذكرون أنه قد تم مبكرا هزيمة “المشروع الناصري” بكل القيم التحررية والقومية التي حملها، والآن تتم هزيمة “مشروع المقاومة” الذي ولد مبكرا كرد فعل على قيام الكيان الصهيوني، ثم تغذى من أجواء المشروع الناصري بمعاركة المختلفة “الانتصارات والانكسارات” على حد سواء، حتى وصل إلى هذه المرحلة التي شهدناها مع ولادة قوى الجهاد الفلسطينية، ومع هذا الأداء المبهر للشعب الفلسطيني منذ انتفاضة الحجارة وحتى الصمود العظيم في غزة.
لكن هذه القراءة التي عمل ولا يزال على نشرها وتعميمها ” الاعلام العربي المهزوم” بل والعميل أيضا، أجهضتها مسارات المعركة، فجاء أداء المقاومة الفلسطينية المجاهدة على غير ما يشتهيه هؤلاء جميعا: الأصليون، والوكلاء، والتابعون، والعملاء، وجاء صمود المقاومة وصبر الغزيين، وفشل الإسرائيليين في تحقيق أي هدف من الأهداف المعلنة للعدوان، ليؤكد أن “المقاومة” رقم أصيل في معادلة المنطقة لا يمكن تجاوزه، وأن قضية فلسطين ليست قضية نزاع على حدود، وإنما قضية تصيب صميم المشروع الصهيوني، والمجتمع والكيان الإسرائيلي.
وجاء مؤتمر شرم الشيخ الذي دعي بمؤتمر السلام تعبيرا عن أحدث مسعى دولي تقوده الولايات المتحدة لإيجاد مخرج ” مقبول” للقيادة الإسرائيلية بعدما عانت من فشل وقصور وفضائح عسكرية وسلوكية على مدى عامين كاملين. وكان فشلها وقصورها وفضائحها التي كشفت عن نهج عنصري إجرامي سببا رئيسيا من أسباب الحراك الشعبي العالمي غير المسبوق المناصر للقضية الفلسطينية، والفاضح للجرائم الإسرائيلية في هذه الحرب تجاه غزة، والذي أعاد هذا الكيان الى مكانه الحقيقي على خريطة الضمير الإنساني باعتباره آخر نظام عنصري في هذا العصر، وأكثرها بشاعة واجراما واحتقارا للقيم الإنسانية، وكان له دوره الكبير في الضغط على العديد من الحكومات الغربية للذهاب إلى الاعتراف ب “الدولة الفلسطينية”، وفي ظن كثير من هذه الدول أن هذا الاعتراف يعفيها من مسؤولياتها تجاه تمكين الكيان الصهيوني من ارتكاب ما يرتكبه من جرائم، ودعمه وحمايته من أن تطال قيادته يد القانون الدولي.
4ـ العامل الرابع: محاولة الإنقاذ عبر مؤتمر شرم الشيخ.
ولقد جاء هذا المؤتمر الذي عقد تحت عنوان السلام ليمثل حاجة “أمريكية ـ إسرائيلية” قبل كل شيء، رغم أن المقاومة كانت تدعو إلى وقف للقتال، وإلى اعتماد برنامج لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في إطار عملية تبادل فلسطينية إسرائيلية، وكانت هذه الدعوة مستمرة ومستقرة منذ وقت مبكر، بل منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، وتحققت عمليات وقف لإطلاق النار وتبادل جزئي للأسرى، لكن الغرب الاستعماري تتقدمه الولايات المتحدة أعطوا الفرصة تلو الفرصة للعدو الصهيوني لإنجاز هدف القضاء على المقاومة، ووفروا له كل الإمكانات العسكري والمادية والسياسية، وأمنوا له تواطؤ المحيط الإقليمي مع أهداف هذا العدوان، لكن ذلك كله فشل، فشلا ذريعا، فجاءت مبادرة مؤتمر شرم الشيخ لترسم طريقا لإخراج إسرائيل من هذا العجز والفشل، ولتعمل على ضبط ردود الفعل الدولية حتى لا تخرج الى مسارات فاعلة قد تصيب الكيان إصابات لا تندمل.
وجاء هذا المؤتمر على مقاس الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، صاحب فكرة الصفقات، والضجيج الإعلامي الاستعراضي، والأوصاف التي لا تمت للعمل السياسي بصلة، يطلقها على نفسه وعلى أعماله وعلى حلفائه، وحتى على خصومه، فجاء مؤتمر شرم الشيخ وكأنه “عرس انجاز”، لرئيس يبحث عن انجاز ما، وظهر سريعا أن ما تم في شرم الشيخ بعيد جدا عن صفة ” خارطة طريق” لإنهاء الوضع الميداني الشائك في غزة، وبعيد كثيرا عن صفة تمثيل” طريق قد يؤدي الى تسوية إقليمية بعيدة المدى”، فما زال هناك مراحل كثيرة يجب المرور بها قبل أن يستقر وضع “وقف القتال”، منها الانسحاب من غزة، ومنها السلطة التي ستحكم غزة لاحقا، ومنها الدور المريب الذي ستطلع به “اللجنة الدولية” المزعومة في معالجة هذا الملف، ومنها ملف إعمار غزة، ومنها وضع المقاومة في المرحلة القادمة، وجودها وسلاحها، ومنها.. الخ. ولقد كان من الملفت في هذا المؤتمر أن الطرفين الرئيسين في “الصراع” الدامي المستمر على مدى عامين غابا عن المؤتمر. الطرف الإسرائيلي ممثلا برئيس وزراء الكيان، والطرف الفلسطيني ممثلا بقوى الجهاد والمقاومة.
وكان واضحا أن الرئيس ألأمريكي يتصدر من يمثل حكومة تل أبيب في هذه القمة، لكن لم يكن معروفا من يمثل المقاومة فيها، من يمثل إرادة الشعب الفلسطيني فيها.
لكن رغم ذلك فإن غياب رئيس حكومة الكيان، وغياب ممثلي المقاومة، فيه اعتراف من أركان قمة شرم الشيخ أن “الطرفين الغائبين” هما ركنا القضية، وفي هذا شكل ما من أشكال الانصاف لقوى الجهاد والمقاومة.
ولعل مما يسجل في هذا المؤتمر حضور دول إسلامية وعربية في مسار صراع “إسرائيلي ـ فلسطيني”، مما يعيد إشراك هذه الدول في المسؤولية عن ملف الصراع ” الفلسطيني ـ الإسرائيلي”، وهو أمر عملت تل أبيب طويلا للابتعاد عنه، وحصره ليكون فقط بين طرفي العلاقة.
إن اشتراك مصر وقطر وتركيا الى جانب الولايات المتحدة في التوقيع على اتفاق شرم الشيخ، كضامنين لهذا الاتفاق، واعتبارهم دول ذات صلة ومسؤولية مباشرة بالنسبة للوضع الفلسطيني وبحضور عربي وإسلامي ودولي مميز له دلالته في إعادة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى الدائرة الأوسع.
قد لا يحمل هذا التميز في “التوقيع الرباعي” على وثيقة شرم الشيخ قيمة حقيقية، وهو ما تريده حكومة تل أبيب، وقد يحمل معنى مهما وقيمة خاصة للقضية الفلسطينية ولقضية المقاومة، وهو ما يجب أن يكون، وما يجب العمل لأجله.
المسالة هنا يحيطها الغموض، وقد علمتنا التجارب أن كل اتفاق دولي يخصنا حين يكتنفه الغموض، فإن علينا أن نكون حذرين من المسار اللاحق له، حيث يفسر هذا الغموض في اتجاهات متعارضة مع مصالحنا.
وأخيرا
نختم هذه القراءة بالسؤال المهم الذي بات مطروحا في كل الأوساط، وفي كل وسائل الاعلام، وعبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، مطروحا لدواعي طبيعية حقيقية ولدواعي خبيثة ومغرضة:
هل انتصرت المقاومة في هذه المواجهة؟ هل كانت عملية طوفان الأقصى عملية عاقلة؟
السؤال طبيعي لكن قد يبدو من المبكر الخوض في غمار الإجابة عليه، لأسباب عدة ليس أولها أن كثيرا من الجوانب الميدانية لم تتضح بعد، إذ ما زلنا في أول مراحل تطبيق الاتفاقات التي تم التوصل اليها، كذلك فإن الكثير من جوانب الوضع السياسي هي أيضا لم تتضح، بل إن غموضا شديدا يعتريها، خصوصا مع تأكيد قيادات ضامنة أن الاتفاق لا يمثل خارطة طريق، يمكن الاهتداء بها.
لكن مع ذلك فإننا نستطيع أن نتلمس الطريق في عملية الإجابة على هذا السؤال.وأكتفي في هذا الصدد بتوضيح أمور عدة:
1ـ أننا لا نستند في قياس مشروعية ما قامت به المقاومة ” عملية طوفان الأقصى” إلى كونها حققت هدفها أم لم تحقق، وإنما إلى حقيقة أنها أعدت لهذا العمل عدته كما يجب أم قصرت في هذا الاعداد، ونقصد هنا الاعداد العسكري، والمادي واللوجستي، والسياسي. أما أنها حققت هدفها فهذا أمر تتداخل فيه عوامل كثيرة منها ما هو ممكن الحساب ومنها ما هو خارج الحساب، والفكر العسكري والاستراتيجي يستند في كل المدارس والنظريات إلى مفهوم النص القرآني ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”، والوقائع كلها تؤكد أن المقاومة أعدت كل ما تستطيع من قوة، بل وعملت حسابات تفوق المتوقع لاحتياجات المعركة.
أما الحديث عن الخسائر، وهي هنا هائلة فليست مبررا للحكم السلبي على العملية، أو على قيادتها، ولو أردنا اللجوء الى هذا المعيار، لحكمنا على كل معارك الجهاد ومواجهة الغزو والاحتلال التي لم تختم بالنصر بأنها كانت خاطئة وغير ضرورية، ومثل هذه المواجهات في تاريخنا المعاصر كثيرة منها: عمر المختار، عبد الكريم الخطابي، عز الدين القسام، ثورة المهدي في السودان، وكل هذه وأمثالها وقد استمرت لسنوات انتهت دون الوصول الى هدفها، لكنها لا يحكم عليها وفق النهاية، وإنما وفق الاعداد، والإخلاص، والصبر، والمثابرة.
2ـ ولقد توفر لعملية “طوفان الأقصى”، قيادة سياسية وعسكرية، مؤهلة، مخلصة، صادقة، وجسورة. وهذه صفات حين يرافقها الاعداد المتكامل لساحة المعركة نكون أمام قيادة موثوقة ومؤتمنة موضوعيا.
والحديث عن القيادة هنا ليس حديثا عن شخص بعينه، ـ وكل شخص في هذه القيادة أهلا للإشارة إليه ـ وإنما الحديث يغطي صفوف القيادة التي رافقنا أداءها في الميدان العسكري، وفي الميدان السياسي، وفي السلوك الأخلاقي.
3ـ مع هذا التقدير العالي لهذه القيادة، فإني أعتقد أنها وقعت في تقدير خاطئ لعاملين اثنين:
** عامل يتصل بتقديرها التزام الأطراف المعنية بمفهوم “وحدة الساحات” اتجاه القضية الفلسطينية، والتي ضمت حينها ما كان يعرف بجبهة المقاومة، وقد ظهر سريعا أن طهران تخلت عن هذا الشعار واستبدلته بشعار “المساندة”، فخذلت أولا المقاومة الفلسطينية وتركتها لوحدها، ومن ثم ضحت بحزب الله، ـ بعد أن مرغته بجرائمها ومذابحها الطائفية في سوريا ـ منساقة بذلك وراء وهم / وخديعة المحافظة على دولة “ولاية الفقيه”. وتبين لها بعد أن فات الأوان أنها لم تسلم من استهدافها بالعدوان المباشر، وأنها كانت وحزب الله مخترقين حتى العظم من قبل استخبارات جبهة الأعداء.
** العامل الثاني يتصل بحجم الخذلان الذي وصل إلى حدود التواطؤ الذي واجهته قوى الجهاد الفلسطيني من معظم أطراف النظام العربي، قبل طوفان الأقصى، وظهر بأبشع صوره بعد الطوفان، وأنا أرجح أن قيادة المقاومة لم تقدر أن الخذلان قد يصل الى هذا المستوى من التواطؤ.
ولعل مما ساعد على وقوع قيادة المقاومة في هذا التقدير الخاطئ للعامل الأول وتوابعه هو الدعم اللامحدود الذي قدمته إيران للمقاومة، والمكانة المميزة التي كانت لحزب الله لدى القيادة الإيرانية، بحيث ساد الاعتقاد بأن التضحية بهذا الحزب أمرا غير ممكن الحدوث.
وقد تكاتفت هذه العوامل مجتمعة في توليد حالة من عدم وضوح الدافع الرئيسي لنظام الملالي في دعم المقاومة، رغم ظهور مؤشرات في الساحة السورية والساحة اللبنانية، كان يمكن أخذها في الاعتبار.
ولاستطلاع معنى ما نقول لنتصور ماذا سيكون عليه الوضع لو التزمت إيران ومعها حزب الله بشعار “وحدة الساحات” من اليوم التالي لطوفان الأقصى، وطبقت ذلك بدخولها والحزب المعركة، وهل ستكون النتيجة على نحو ما آل إليه الوضع في غزة ولبنان وإيران؟
البت في هذا الجانب من تقديرات قيادة المقاومة يحتاج إلى مزيد من الوقت، وإلى معرفة المزيد من الملابسات والمعطيات التي حكمت رؤيتها.
ما قلناه في قراءتنا الأولية هذه لا يخل في تقديرنا مكانة قيادة المقاومة، وقدرتها على إدارة الملف الفلسطيني، والثقة الواعية التي يجب أن نمحضها هذه القيادة في كل حين، لجعل قدرتها على ممارسة دورها أكثر فاعلية، وأبعد أثرا.
إستانبول 16 / 10 / 2025
د. مخلص الصيادي